الجَدْوَلُ الصغير..
عبد العزيز بن السايب/ إنَّ زيارة العلماء الربانيين، والشيوخ المربين غَنِيمةٌ ثمينةٌ، فهي روح طاهرة تُشِعُّ على روحك، ورحيقٌ زَكِيٌّ يَنْسَكِبُ جوفَ صدرِك، وطمأنينةٌ تُشِيعُ السكينةَ على فؤادك المضطرب .. من هؤلاء الشيوخ الشوام الذين سمعتُ عنهم في بداية إقامتي في دمشق الشيخ أحمد الشامي الدُّوْمي رحمه الله تعالى . وسبقَ ذِكْرُ طَرَفٍ من منزلتِهِ …

عبد العزيز بن السايب/
إنَّ زيارة العلماء الربانيين، والشيوخ المربين غَنِيمةٌ ثمينةٌ، فهي روح طاهرة تُشِعُّ على روحك، ورحيقٌ زَكِيٌّ يَنْسَكِبُ جوفَ صدرِك، وطمأنينةٌ تُشِيعُ السكينةَ على فؤادك المضطرب ..
من هؤلاء الشيوخ الشوام الذين سمعتُ عنهم في بداية إقامتي في دمشق الشيخ أحمد الشامي الدُّوْمي رحمه الله تعالى .
وسبقَ ذِكْرُ طَرَفٍ من منزلتِهِ وكريمِ خِصَالِهِ في مقال «أهلُ القرآن»، ومقال آخر تحت عنوان «شَكْوَى» من هذه الصفحة ..وهو المولود عام: 1904، والمتوَفَى سنة: 1993م .
اطلعتُ على صفحات من أمن إخواني الجزائريين، وأصدقائي السوريين ..فعزمتُ على زيارته، لأنَّ كِبَرَ سِنِّهِ وضَعْفَ قُوَّتِهِ أَقْعَدَاهُ عن الخروجِ وإلقاءِ الدروس.
فاتفقتُ مع بعض أصدقائي السوريين من زملائي في كلية الشريعة على زيارته، لأنهم أَهْلُ البلادِ وأَدْرَى بشِعَابِ الشام، والشيخُ يُقِيمُ في ريف دمشق، في مدينة دُوما، ولا خِبْرَةَ لي بها، ولا دِرَايَةَ لي بوسائل النَّقْلِ إليها .
ولا أدري لماذا لم يُنَفَّذْ اتفاقُنا، ولا أَذكرُ سببَ ذهابي وحيدا إلى الشيخ..فكل الذي عَلِقَ بذاكرتي أني ذهبتُ إلى موقف باصات دوما ضُحًى، ووصلتُ في حدود الحادية عشر نهارا ..
كانت مغامرة، فكان كالتحدي أن أذهب وحدي .. ولأول مرة أسافر هذه المسافة بعيدا عن مَعشوقتي دمشق..إلى منطقة لا أعرفها ولا صلة لي بأحد من أهلها..كل الذي أعرفه هو زيارة ذلك الشيخ الصالح الشيخ أحمد الشامي مفتي الحنابلة ..
وكذلك كان الأمر .. وبمجرد وصولي إلى دوما خرجتُ من محطة الحافلات بِضعة أمتار، ثم شرعتُ في السؤال عن بيت الشيخ الشامي ..كالأَبْلَه..
والشيخُ هناك أَشْهَرُ من نَارٍ على عَلَمٍ، فهو عالم المدينة وصالحها ومفتيها .. فكان يسيرا عليهم توجيهي إلى ذلك البيت العريق ..
ولما وصلتُ للبيت دَقَقْتُ البابَ، ففتح لي الباب رجلٌ قد تجاوز الأربعين أو قاربها..فقلت له: هل الشيخ الشامي هنا؟
فقال لي: من يريده؟
فقلت له: طالب؟
قال لي: مِنْ أين؟
فقلتُ له: من الجزائر .
فرحَّبَ بي مبتسما مندهشا، وأدخلني إلى غرفة الضيوف . وتَبَيَّنَ لي بعد ذلك أنه ابنُ الشيخ، وهو الأستاذ الشيخ صالح أحمد الشامي..حفظه الله تعالى .
دخل الشيخ بعد بُرْهَةٍ مُستندا على سَاعِدِ ابنِهِ، ثم جلس في المقعد الذي كاد أن يَبْتَلِعَهُ، لنُحُولَةِ جِسْمِهِ، ولَطَافَةِ حَجْمِهِ، وكأنَّ الثيابَ التي يلبسها في الحقيقة هي التي تَلْبَسُهُ وتَعْبَثُ بجسدِهِ، قَدَّرْتُ أنَّ وزنَهُ لا يَزيدُ على الأربعين كلغ..
ولما استقر به المجلسُ بادرتُ بتقبيلِ يَدِهِ ..النَّاعِمَةِ ..وخَطَرَ على بالي مُباشرةً وَصْفُ سيدِنا أَنَس رضي الله عنه خادم رسول الله لِيَدِ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال: .. مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلاَ دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..كما في الصحيحين .
وهذه عادةُ أهلِ الشام تَقْبِيلُ يَدِ علمائِهم وصُلَحَائِهم، وأَنْعِمْ بها من عادة..
لكني لما قَبَّلْتُ يده إذ به يُقَبِّلُ يدي.. فأردتُ تطبيق (..بأحسن منها..) فلما رآني أَهُمُّ بتقبيل رُكْبَتِه زَجَرَنِي عن ذلك..
لكني خَالَفْتُهُ وقَبَّلْتُهَا..وهي المرة الوحيدة في حياتي التي أفعل هذه الفَعلة، وكُنْتُ أَتَأَوَّلُ ما رُوي من فعل بعض الصحابة، من وَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ، لما وَفَدُوا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يَتَبَادَرُون من رواحلهم، فيُقَبِّلون يدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورِجْلَه. أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود . على اختلاف في ثبوت «ورجلَه».
فقال لي مغاضبا أَلَمْ أَنْهَكَ عن هذا..؟
فقلت له: يا سيدي كُبُرَ عليَّ أن تُقَبِّلَ يدي، ففعلتُ فَعْلَتِي وأنا من الظالمين..
لكن الشيخ كُتْلَةُ لُطْفٍ ورِقَّةٍ وخشوعٍ وهدوءٍ..فتخَيَّلْ غَضَبَ من لا يستطيع الغَضَبَ..
فنظر فيَّ .. ثم انفرجتْ أساريرُ وجهه عن ابتسامة ملائكية جميلة مريحة، وقال: سَأُسَامحكَ على فعلتك ..
فقلت له: رجاءً سامحني يا سيدي..بارك الله فيك..
فقال لي: سأسامحك لسبب واحد ..أتعلم ما هو؟.. لأنك من بلاد سيدي وشيخي ومربي الشيخ محمد الهاشمي التلمساني..رضي الله عنه..هل تَعرفُهُ؟ فقلت: للآسف لا أعرفه..فطفق يكلمني عنه كلام المحبِّ ويُعَدِّدُ فضائله بلغة المتعلِّق..من عِلمٍ عميقٍ، وخُلُقٍ رفيعٍ، وتواضعٍ منقطع النظير،..وخشوع ملازم ..
فلما اطمأنَ المجلسُ وسَادَهُ خُشوعٌ وسكينةٌ.. استأذنتُ الشيخَ في السؤال الذي زُرْتُهُ من أَجْلِّهِ..وهو سؤالٌ وَحِيدٌ..
قُلتُ له فيما معناه: يا سيدي .. أنت تعلم رُعُوناتِ الشباب وأشواقَهم، وإني طالب علم شرعي، مُغتربٌ، في ريعان الشباب.. والدروسُ التي أُلازمها في المساجد كثيرةٌ، ومقرراتُ كليةِ الشريعةِ في جامعة دمشق كَثِيفَةٌ عَمِيقَةٌ..ورَغبَتِي شَديدةٌ في السير إلى الله، وبلوغ مقامات اليقين..والظَّفَرِ بِحُبِّ مولانا جل جلاله والزُّلْفَى لَدَيه، والاعتكاف على مَرَاضِيهِ ومَحَابِّهِ وما يَزيدُني قُرْبًا منه..
ولكن أَنَّى لي مثل ذلك .. وحالي تلك الحال..وارْتِبَاطَاتِي تلك الارتباطات..وتَنَقُّلاتِي اليومية الْمُرْهِقَة..والحفظ والمراجعة والمطالعة والمدارسة والمذاكرة لا تسمح لي بوقت مع ربي، أو بخلوة طيبة في مناجاته.. واغرورقت عيناي، ولكنْ تَجَلَّدْتُ من حيث لم ينتبه الشيخ لما نزل بي، أو هكذا ظَننتُ ..
فالشيخ كان مُطْرِقًا..ولم يتكلم بكلمةٍ طيلةَ عَرْضِي لمشكلتي، فقط كانت في يده مِرْوحة صغيرة، كان يُرَوِّحُ بها بين الفَيْنَةِ والفَيْنَةِ..
فلما سَكَتُّ قال لي بِلُغَةٍ وَاضِحَةٍ سَهْلَةٍ بَيِّنَةٍ مُعَبِّرَةٍ: يَا بَا..ربي يوفقك..المهم عدم الانقطاع..ولو كانت الأعمال قليلة والدقائق معدودة المهم المواصلة..
ألم تسمع بقول الشاعر: ..كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ..
نعم هكذا ..انظر يا ابني..ألستَ ترى أنَّ الجَدْوَلَ الصَّغِيرَ ولو كان ماؤُهُ قَليلا وسَيْرُهُ ضَعيفا وانْحِدَارُهُ وَئِيْدًا..ولكنَّه ما دام مستمرا في السَّيْلِ فإنَّه أَكيد سيصل إلى نهايةِ الْمَطَافِ ويبلغ غايتَهُ..ليس المهم كثرة الأعمال، المهم الاستمرار وعدم الانقطاع..
كانت كلماتٍ نُورانيةً انْثَلَجَ لها صَدري، وتسببت في روحانية طافية..فعُدْتُ من عند الشيخ كأني أَقْبِضُ بكِلْتَا يَدَي على جوهرةٍ ثمينةٍ أَخْشَى انْفِلاتَها من قبضتي..
كانت نِعْمَ النَّصيحةِ، ما زلتُ أَهتدي بها كلما ضاق خاطري واشتقتُ إلى مناجاة ربي في زحمة الأعمال ..أتذكر كلمات الشيخ الشامي..المهم عدم الانقطاع..فأقوم بما تسمح به ظُروفي..تَائِبًا مُنِيبًا شَاعرا بالتقصير..
وقديما قال الْمُرَبُّون: صَلِّ من الليل ولو ركعتين، حتى يَكْتُبَك الله في دِيوان القائمين، وتَصَدَّق ولو بدرهمين حتى يكتبك الله في ديوان المتصدقين، واقرأ ولو آيتين حتى يكتبك الله في ديوان القارئين .. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «..إن أحبَّ الأعمال إلى الله أدْوَمُها وإنْ قلَّ» . أخرجه الشيخان .
نعم.. نحن نتعامل مع ربٍّ عظيمٍ كريمٍ يَنْظُرُ إلى صِدْقِ النيةِ وصفاءِ العملِ والرغبةِ الدائمةِ إليه، لا إلى مُجَرِّدِ ضخامةِ الأعمالِ وكَثْرَتِهَا..