فيمَ الانتقاد؟ وهل سلِمَ من النقص العباد؟

د. بن زموري محمد/ ما أكثرَ الأصوات التي تعلو عند كل محاولة، وما أكثر الأقلام التي تُشحذ عند كل اجتهاد، حتى كأنَّ النقد صار طباعًا لا يُسأل صاحبُها عن برهان، ولا يُلزَم فيها بميزان. وكلما قام عاملٌ، أو تحدث مصلح، أو اجتهد مربٍّ، خرجت له سهام الانتقاد من حيث لم يحتسب، لا تمحص فكرًا، ولا …

أغسطس 11, 2025 - 16:45
 0
فيمَ الانتقاد؟ وهل سلِمَ من النقص العباد؟

د. بن زموري محمد/

ما أكثرَ الأصوات التي تعلو عند كل محاولة، وما أكثر الأقلام التي تُشحذ عند كل اجتهاد، حتى كأنَّ النقد صار طباعًا لا يُسأل صاحبُها عن برهان، ولا يُلزَم فيها بميزان. وكلما قام عاملٌ، أو تحدث مصلح، أو اجتهد مربٍّ، خرجت له سهام الانتقاد من حيث لم يحتسب، لا تمحص فكرًا، ولا تهدف إلى إصلاح، وإنما تتلذذ بهدم وتجريح، وتلبس ثوب الغيرة والنصح، وهي أبعد ما تكون عنهما.
نتساءل بمرارة: فيمَ الانتقاد؟ وهل سلِمَ من النقص العباد؟ ألسنا جميعًا بشرًا نعاني من محدودية الإدراك، ونقع في الخطأ والتقصير؟ فمن ذا الذي نجا من النقص حتى يحق له أن يجلد غيره بلا دليل؟ وهل تحوَّل النصح إلى تصيد، والإصلاح إلى تصفية حسابات مغلّفة بعبارات التوجيه؟
لقد صار النقد عند البعض وسيلة للشهرة، أو لإثبات التفوق الزائف على حساب مجهودات الآخرين، بدل أن يكون جسرًا يُبنى به التواصي بالحق. بل إنك ترى من ينتقد الأعمال الجليلة التي لو قدِّرت قدرها لأُقيم لها الشكر والدعاء، لكنه ينتقدها لا لخلل حقيقي فيها، بل لأنه لم يشارك فيها، أو لأنه لم يُستشر، أو لأن بها شيئًا لا يوافق ذوقه الشخصي!
إن النقص سِمة في طبيعة البشر، والإنجاز الكامل نادر، بل محال، والكمال لله وحده، لذلك فالعدل أن ننظر إلى العمل بنظر شمولي؛ نرى فيه الجهد والنية والآثار، قبل أن نحاكمه بسطر ناقص أو تفصيل فرعي. أوليس من حسن الخلق أن نقول: «هذه أعمالنا، فيها ما يُشكر، وفيها ما يُستدرك، لكننا نُحسن النية ونُواصل التصويب»؟ فما ضرّنا لو عاملنا الناس كما نحب أن نُعامل؟
ثم إن الانتقاد -إذا لم يكن مبنيًّا على علم وبيّنة وتجرُّد- يتحول إلى غيبة ملبّسة بثوب الغيرة، فيكون صاحبه كمن يجمع بين التجنِّي والإفساد وهو يحسب أنه يحسن صنعًا. والنبي صلى الله عليه وسلم علّمنا أن الكلمة قد تهوي بصاحبها في النار، وإن قُصد بها مجرد التعليق العابر أو النكتة العابرة. فكيف بمن يُفنّد مجهود الآخرين، ويتتبع عثراتهم، ويُشيع أخطاءهم في المجالس والصفحات، دون علم بظروفهم، ولا تمحيص لما بذلوه؟!
وهنا يتأكد الفرق بين الناقد الصادق والناقد الجارح.
فالناقد الصادق يبدأ من الاعتراف بجهد الآخرين، ويثني على ما أصابوا فيه، ثم يُشير بلطف إلى ما يُمكن تحسينه، ويقترح بدائل، وينسِب القول لأهله، ويقصد بذلك النفع لا التصدر. أما الجارح، فلا تراه إلا مُنقبًا عن الزلات، متشفيًا من العثرات، متعاليًا في لهجته، غافلاً عن قوله تعالى: ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾ و**﴿ولا تلمزوا أنفسكم﴾**.
وقد يكون من المؤلم أن تجد أكثر المنتقدين لم يُجرّبوا العمل في الميدان، ولم يحملوا مسؤولية مشروع، ولم يُربّوا، ولم يُعلّموا، ومع ذلك يضعون أنفسهم حكّامًا على أعمال العاملين، يوزّعون الأوسمة أو الصفعات بحسب ما يوافق هواهم. وهذا خطر، لأن النقد إذا لم يُصاحبه الورع والموضوعية، صار ظلمًا.
بل إن التوقف عن العمل خوفًا من الانتقاد بات ظاهرة سلبية أخرى، فقد صار بعض المخلصين يكفّون عن النشر أو التعليم أو الإصلاح، خشيةَ الوقوع تحت نيران المنتقدين، فخسرنا كثيرًا من الجهود والطاقات، بسبب غلظة ألسنةٍ لا تعرف للرفق طريقًا.
ولذا، فإن أخطر ما في النقد الجارح أنه لا يوجَّه للمضمون، بل يُوجه للأشخاص؛ فتتحول المعركة من مناقشة فكرة إلى إسقاط سمعة، ومن تصحيح خطإ إلى نزع فضلٍ من أهله، وهذا ما يُفسد القلوب ويُنبت الحسد ويُفرّق الصفوف، ويضعف الثقة بين الناس، خصوصًا في بيئات الدعوة والعمل التربوي.
فمن أراد أن يُنكر منكرًا، أو يُنبه على خطإ، فليكن منهجه النصح الصادق، والنقد الباني، لا السخرية، ولا التهكم، ولا التصيد. وليُقدّر أن العامل قد يُخطئ في فروع، لكنه يُصيب في الأصول، وقد يقصر اليوم، لكنه يتعلم ويُحسن غدًا، كما قصرنا نحن وتعلمنا.
فلنكن رفقاء في نقدنا، عدولا في أحكامنا، أمناء في نصحنا، رحماء في لغتنا.
ولنسأل أنفسنا كلما هممنا بنقد أحد: هل هذا لوجه الله؟ هل أبتغي به الإصلاح؟ هل صغت عباراتي برحمة، كما كنت أحب أن تُقال لي؟
نعم، النقد ضرورة، لكنه مسؤولية، ومن لا يُحسنها، فليدعها لأهل العلم والحكمة، وليُشغل نفسه بما ينفعه. فكفُّ الأذى صدقة، وإعانة العامل ولو بكلمة طيبة أفضل من ألف تعليق سلبي.
فكِّر جيدًا قبل أن تنتقد:
هل ستبني بكلمتك، أم ستهدم؟
هل قلتها لأنك تُحب لأخيك ما تُحب لنفسك؟
أم لأنك وجدت فيها متنفسًا لعيبٍ في نفسك، فألبسته ثوب الغيرة؟
إننا إن صدقنا مع أنفسنا، لوجدنا أننا أحوج إلى من ينتقدنا برحمة، لا أن ننتقد غيرنا بغلظة.
فـ«فيمَ الانتقاد؟ وهل سلِمَ من النقص العباد؟».