كلنا مسؤولون …المطلوب وطن يحيا آمنا مطمئنا
مساهمة :الدكتور عبد الفتاح داودي*/ في الوقت الذي كان يفترض أن يكون الأطفال آمنين في أحضان أسرهم، وبين جدران مدارسهم، وفي شوارع أحيائهم، فجعت الجزائر بجريمة وحشية لا يمكن أن تُوصف إلا بأنها اغتيال مكتمل الأركان للبراءة والإنسانية، راح ضحيتها جسد طاهر لم يعرف الخطيئة، روحٌ عُذِّبت ومُثّل بها بطريقة تهز الجبال، اسمها مروة بوغاشيش، …

مساهمة :الدكتور عبد الفتاح داودي*/
في الوقت الذي كان يفترض أن يكون الأطفال آمنين في أحضان أسرهم، وبين جدران مدارسهم، وفي شوارع أحيائهم، فجعت الجزائر بجريمة وحشية لا يمكن أن تُوصف إلا بأنها اغتيال مكتمل الأركان للبراءة والإنسانية، راح ضحيتها جسد طاهر لم يعرف الخطيئة، روحٌ عُذِّبت ومُثّل بها بطريقة تهز الجبال، اسمها مروة بوغاشيش، رحمها الله. لكنها في الحقيقة ليست مجرد اسم، بل هي صرخة تختصر وجع أمة، وسؤالًا مفتوحًا في وجه الجميع: من المسؤول؟ ومن سيُحاسب؟ وهل نكتفي بالبكاء والبيانات، ثم ننسى كما نسينا من قبلها؟
إننا نعيش في مجتمع بات يتعايش مع الكارثة، يعتاد الجريمة، ويتماهى مع الصدمة. والأخطر من الجريمة، هو أن نعيشها ثم نُطويها في أرشيف النسيان. لكن جريمة مروة أكبر من أن تُختزل في تنديد إعلامي أو عاطفة عابرة. إنها جريمة بحق الإنسانية، بحق الضمير، وبحق الطفولة، والمجتمع الذي لا يحمي أطفاله مجتمع فقد معناه.
المسؤولية هنا جماعية، ولا مجال للمجاملا، فالأسرة أولى مؤسسات التنشئة الاجتماعية، تتحمّل قسطًا وافرًا من التقصير، إذ انشغل كثير من الأولياء بالماديات، غاب الحوار، ضاعت رقابة الأب وانهار حنان الأمومة أمام فوضى الترندات والشاشات والتطبيقات. كثير من الأطفال اليوم يُربَّون على الهامش، دون حماية نفسية ولا تربية أخلاقية، ولا توجيه فطري سليم.
المدرسة بدورها تخلّت عن دورها التربوي، وتحولت إلى مؤسسة امتحانات وحشو، لا تعرف الوقاية ولا الاكتشاف المبكر، ويفتقد كثير من معلميها للتكوين في جوانب الرصد النفسي والسلوكي.
المسجد تراجع عن احتضان الناشئة، وخُصّ بدور طقوسي في المناسبات، بعد أن كان حصنًا للفطرة ومصدرًا للطمأنينة والقدوة.
الإعلام، لا سيما التلفزيون ووسائل التواصل، ساهم بشكل خطير في تطبيع العنف والابتذال والانحلال، بل صار بعضه مدرسة لتعليم الجريمة والعنف اللفظي والجسدي.
السلطات الأمنية والقضائية مطالَبة بأن تعترف بأن هناك فشلًا في الاستجابة السريعة، وفي التنسيق بين البلاغات والردود الفعلية. كم من بلاغات أُهملت؟ وكم من علامات خطر أُغفلت؟ والنتيجة: جريمة مكتملة، ونظام استجابة متأخر!
ولنُصارح أنفسنا أكثر، فالجاني في مثل هذه الجرائم ليس مجرد “مريض نفسي”، كما يحاول البعض أن يبرر، بل هو مجرم بكامل الوعي والإدراك والمسؤولية الجنائية، ولا بد من كشفه للرأي العام، لأن التستّر على الوحوش الآدمية خيانة لدم الطفولة، ولشرف القانون.
أما عن العقوبة، فلا بد من القصاص الذي أقرّه الشرع، وأكدته الفطرة، وطلبه الضمير الجماعي. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾. الإعدام في مثل هذه الجرائم ليس انتقامًا، بل عدل. ليس ردّ فعل عاطفيًا، بل فريضة شرعية، وضمانة مجتمعية. المجرم الذي يقتل طفلة، يُشوّه جسدها ويُرعب أهلها، لا مكان له بين البشر، ولا معنى لتركه حيًّا. الإبقاء على حياته هو اغتيال ثانٍ لمروة.
علينا أن نعيد النظر في كل المنظومة: في المناهج، في الإعلام، في الضبط القضائي، في قانون حماية الطفل، في القيم التي نُربّي عليها، في السلوكيات التي نمررها باسم الفن أو الحرية، في سكوتنا عن الإنذار المبكر في تخلي كل طرف عن دوره الحقيقي. فهذه ليست أول جريمة ولن تكون الأخيرة إن لم نتحرك بجدية، بشجاعة وبإرادة تتجاوز الخطابات إلى الأفعال.
رحم الله مروة، وألهم أهلها الصبر والسلوان وجعل دمها الطاهر لعنةً تطارد الجناة، وسببًا في يقظة وطن يستحق أن يحيا آمنًا.
* جامعة المسيلة