من أجل مستقبل الجمهورية … رؤية 2062 (2)
لقد سعيتُ في الرؤية السابقة إلى طرح تصور استراتيجي شامل يمس الأسس الصلبة لبناء نموذج جزائري أصيل، يقوم على مشروع وطني متكامل يستوعب دروس الماضي ويستفيد من الأخطاء والاختلالات التي رافقت التجارب السابقة، ليؤسس لمشروع نهضوي مستدام قادر على مواكبة التحولات العالمية. أما جوهر هذا المشروع فيتجسد في صياغة أهداف واضحة ومحددة تنجز ضمن مراحل […] The post من أجل مستقبل الجمهورية … رؤية 2062 (2) appeared first on الشروق أونلاين.


لقد سعيتُ في الرؤية السابقة إلى طرح تصور استراتيجي شامل يمس الأسس الصلبة لبناء نموذج جزائري أصيل، يقوم على مشروع وطني متكامل يستوعب دروس الماضي ويستفيد من الأخطاء والاختلالات التي رافقت التجارب السابقة، ليؤسس لمشروع نهضوي مستدام قادر على مواكبة التحولات العالمية. أما جوهر هذا المشروع فيتجسد في صياغة أهداف واضحة ومحددة تنجز ضمن مراحل زمنية دقيقة منها أهداف قصيرة المدى تُحقق كل خمس سنوات، وأهداف متوسطة المدى تُراجع كل عشر سنوات، وأهداف بعيدة المدى تُبنى على أفق ربع قرن.
وتتمثل الغاية الكبرى لهذا النموذج في إحداث تحوّل جذري في الملفات الاستراتيجية التي تشكّل الرافعة الحقيقية للنهضة الوطنية، ويأتي في مقدمتها تطوير قطاع صناعي وتكنولوجي متكامل قادر على المنافسة في الاقتصاد العالمي، باعتباره الأساس الذي يُمكّن الجزائر من امتلاك أدوات السيادة الحديثة، فبقدر ما ننجح في بناء قاعدة صناعية-تكنولوجية متينة، بقدر ما نستطيع مكننة وتكنلجة الفلاحة ورفع إنتاجيتها، مع استلهام أفضل الدروس من التجارب العالمية الرائدة، التي رسخت مكانة بلدان مثل هولندا والبرازيل والولايات المتحدة والصين وروسيا كقوى زراعية عظمى.
من التجارب الدولية إلى الحلول الوطنية..
إن ما أطرحه لا يقوم على مجرد مقاربة استيراد وصفات جاهزة أو تقليد أعمى للتجارب الأجنبية – كما فهم البعض ذلك دون إمعان النظر فيما كُتب -، بل على استيعاب منطقها الداخلي ومبادئ نجاحها، ثم تكييفها مع الخصوصية الجزائرية، ديمغرافيا وثقافيا وجغرافيا ومؤسساتيا، فالتجارب الدولية تؤكد أن النماذج الناجحة لم تُبْن على النقل الحرفي للوصفات، بل على ابتكار حلول وطنية أصيلة استندت إلى فهم عميق للسياق المحلي واستيعاب ذكي للتحولات العالمية، ومن هنا، تبرز الحاجة إلى أن يبلور النموذج الجزائري شخصيته المميزة، مستفيدا من دروس النجاح العالمية من دون أن يقع في فخ التبعية أو الاستنساخ.
وأود التأكيد بعد النقاشات الثنائية التي جرت مع بعض المهتمين والمتابعين الذين اعتقدوا أنني أدعو إلى استيراد النماذج الجاهزة، أنني شددت في كل مرة عبر المقال السابق على ضرورة أن تكون الحلول جزائرية أصيلة، فنجاح تجارب سنغافورة والصين وكوريا الجنوبية وتركيا واليابان لم يكن ثمرة وصفات مستوردة أو ضغوط خارجية، بل نتيجة جهود وطنية خالصة استوعبت التحولات العالمية الكبرى واستلهمت منها مساراتها، كما فعل بارك تشونغ هي، ودنغ شياو بينغ، ولي كوان يو.
والواقع أن الحلول المستوردة غالبا ما تواجه صعوبات في التكيّف مع البيئات المحلية التقليدية، مثلما حدث مع “أب القنبلة الاقتصادية” الألماني هيلمار شاخت، الذي نجح في تحقيق استقرار المارك والقضاء على التضخم بألمانيا، ما أهله ليصبح وزير الاقتصاد في العهد النازي بعد أن تمكن من ضبط السياسة النقدية للبنك المركزي وإطلاق مشاريع صناعية كبرى مدنية وعسكرية، إضافة إلى مشاريع للأشغال العمومية غير أن نجاحه ارتبط بالسياق الألماني الخاص، ولم يكن قابلا للاستنساخ في بيئات مختلفة.
وقد برز هذا بوضوح في تجربة إندونيسيا، حين اقترح وزير المالية يوسف ويبيسونو، بدعم من المستشار الاقتصادي سوميترو دجوجو-هادي كوسومو الذي درس بهولندا الاقتصاد، الاستعانة بخبرة هيلمار شاخت عام 1951 لمواجهة الأزمة المالية المتفاقمة في عهد أحمد سوكارنو. غير أن الفكرة لم تتجاوز مستوى النقاش ولم تُترجم إلى سياسات عملية، نتيجة الرفض السياسي السائد آنذاك، خاصة في ظل النهج الذي وُصف بـ “الشعبوي”، حيث قاد سوكارنو سياسة هجينة تمزج بين التقارب مع الحزب الشيوعي داخليا، والإبقاء على قنوات مع المعسكر الرأسمالي خارجيا، مع الاستمرار في توسيع الإنفاق دون إصلاحات مؤسسية جادة. ولهذا لم يُمنح شاخت أي سلطة تنفيذية، وبقيت توصياته مجرد مقترحات نظرية لم تتحول إلى برنامج إصلاح فعلي.
لكن بعد ذلك برز ما عُرف بـ “عصابة بيركلي” في أواخر الستينيات والسبعينيات، وهي مجموعة من الاقتصاديين الإندونيسيين الذين تلقّوا تعليمهم في جامعة “بيركلي” بكاليفورنيا وتأثروا بالمدرسة الاقتصادية الأميركية. وقد صاغ هؤلاء، عبر مواقعهم في مؤسسات الدولة الاقتصادية وفي مقدمتها هيئة التخطيط الوطني “Bappenas”، سياسات أكثر واقعية ومرتبطة بالاحتياجات المحلية في عهد الرئيس سوهارتو، في إطار برنامجه الإصلاحي “النظام الجديد”، القائم على الانفتاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية، مع ترسيخ جهاز تخطيطي حديث.
وقد كانت هذه السياسات أقرب في بعض جوانبها التقنية إلى ما طرحه هيلمار شاخت في ألمانيا من حيث ضبط السياسة النقدية وترشيد المالية العامة وتشجيع الاستثمار الموجّه، غير أن السياق كان مختلفا تماما؛ ففي حين ارتبط نجاح شاخت بالبيئة الألمانية الخاصة في ثلاثينيات القرن الماضي، اعتمد تقنوقراط بيركلي في إندونيسيا على الانفتاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية ضمن إطار سياسي جديد.
وقد ساعد ذلك على إعادة هيكلة الاقتصاد وتثبيت أسس النمو والقضاء على التضخم، من خلال اعتماد نهج “ريبيلتا – REPELITA”، أي خطط التنمية الخمسية التي انطلقت سنة 1969، والتي وضعت لأول مرة إطارا استراتيجيا متدرجا للتنمية الوطنية. واستند هذا التحول إلى الفكر الكلاسيكي الجديد وإلى أدبيات التنمية لما بعد الحرب العالمية الثانية، مع تبنّي نهج مضاد للنموذج السوكارني القائم على “الاعتماد على الذات” بمعناه الانغلاقي، حيث انتقلت البلاد تدريجيا نحو اقتصاد أكثر انفتاحا واندماجا في السوق العالمية وجاذبا للاستثمارات الأجنبية.
بالمقابل، عانت تشيلي من مأساة اقتصادية حين قاد “فتية شيكاغو” وهم تلاميذ الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان – تجربة إصلاح ليبرالي وُصف بـ “المتطرف” في عهد بينوشيه. ورغم نجاحها المرحلي في كبح التضخم وجذب الاستثمارات، إلا أنها فشلت في بناء توازن اجتماعي واقتصادي دائم بسبب غياب التجذر في البيئة المحلية واصطدامها بالاختلالات البنيوية للمجتمع التشيلي، وقد كان ذلك مثالا صارخا على أن استنساخ وصفات اقتصادية خارجية، بمعزل عن الخصوصيات الاجتماعية والمؤسساتية، قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
أما حول ما طرحته بخصوص الاستفادة من أفكار الخبرات الأجنبية في المقال السابق، فإن المقصود هو تلك الخبرات التي تقدم رؤية استراتيجية بعيدة المدى وتتكيف مع الواقع المحلي، كما حدث في سنغافورة حين استعانت حكومة لي كوان يو بالخبير الهولندي ألبرت وينسيميوس عام 1961. فقد وضع وينسيميوس خطة تنموية عشرية شاملة أعادت صياغة صورة سنغافورة من مجرد ميناء يعتمد على تجارة العبور “الترانزيت” إلى مركز صناعي عالمي متكامل، من خلال ربط تطوير الميناء بإنشاء قاعدة صناعية حديثة، وتعزيز الخدمات واللوجستيات، وتحسين البنية التحتية، وسنّ تشريعات محفزة للاستثمار الأجنبي
وقد واصل وينسيميوس مهمته كمستشار رسمي حتى عام 1984، مساهما في متابعة مسار التحولات الاقتصادية وضمان قدرتها على التكيف مع المتغيرات الدولية، ليصبح أحد العقول المدبرة التي أرست أسس النهضة السنغافورية الحديثة.
شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين
The post من أجل مستقبل الجمهورية … رؤية 2062 (2) appeared first on الشروق أونلاين.