من “راني ميت من الفرحة” إلى “ميت من القنطة”

يا سادة يا كرام، يا من تتمايلون على تربة هذه الأرض الطيبة، والتي تتنفسون هواءها العليل مجانًا، هل توقفتم يومًا لتتأملوا في لغتنا العجيبة؟ لغة لا تكتمل فيها المشاعر إلا بذكر كلمة “الموت”! نعم، “الموت”! هذه الكلمة المهيبة التي يرتجف لها القلب , تكسر الفرحة وتصطك لها الأسنان، صارت عندنا تستعمل في معاني كثيرة لا […] The post من “راني ميت من الفرحة” إلى “ميت من القنطة” appeared first on الجزائر الجديدة.

يونيو 1, 2025 - 13:32
 0
من “راني ميت من الفرحة” إلى “ميت من القنطة”

يا سادة يا كرام، يا من تتمايلون على تربة هذه الأرض الطيبة، والتي تتنفسون هواءها العليل مجانًا، هل توقفتم يومًا لتتأملوا في لغتنا العجيبة؟ لغة لا تكتمل فيها المشاعر إلا بذكر كلمة “الموت”! نعم، “الموت”! هذه الكلمة المهيبة التي يرتجف لها القلب , تكسر الفرحة وتصطك لها الأسنان، صارت عندنا تستعمل في معاني كثيرة لا علاقة لها بالموت الحقيقي وإنما موت من نوع خاص.

تُرى، هل نحن شعب ابتلاه الله بالتفنن في استعمال كلمة الموت في مواضع لا علاقة لها بالموت إطلاقًا؟ هل بلغت بنا “دراما المبالغة المبالغ فيها لحد الجنون” مبلغًا جعلنا نُلبس أبسط تفاعلاتنا رداء الموت الأسود؟ أم أنها طريقة مبتكرة للتعبير عن قمة شعور ما، أو إحساس مفاجئ، أو حالة نفسية غير منتظرة؟ “ميتٌ” من الفرحة… فلنبدأ برقصة “الموت” على أنغام الفرح. تراه يقول لك: “راني ميت من الفرحة!” أو ربما يصرخ: “قتلتني الفرحة!” أو حتى يهمس: “راني رايح نموت من الفرحة!” أو “قلبي راح يحبس من الفرحة!”.

أخي، ألم تجد غير هذه الكلمات لتعبر عن سعادة تغمر قلبك؟ هل تراك تتخيل نفسك في تابوت من البهجة والسرور؟ أي فرحة هذه التي تودي بصاحبها إلى “الموت”؟ هل تعني أن شدة الفرح قاتلة؟ فإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن نحذر الناس من السعادة المفرطة، ونوصي بجرعات محددة من “المرح” حتى لا يصيبهم “موت” مفاجئ بسبب “ابتسامة” أو فرح زائد عن الحد! “ميتٌ” من الجوعِ… ثم ننتقل إلى جانب آخر من جوانب الموت الذي يحاصرنا من كل جهة في حياتنا اليومية، إنه الجملة الشهيرة التي نرددها صباح مساء “راني ميت من الجوع!” أو “راح نموت من الجوع” أو الشر كما يحلو للبعض قول ذلك (يعني الشر هنا مرادف للجوع الشديد).

هذه الجملة التي تلقى على مسامعك بلهجة أقرب ما تكون إلى “صيحة استغاثة” أخيرة قبل خروج الروح المزعوم. وقد تسمع أيضًا: “راح نموت بالجوع!” أو “الجوع قتلني!”. أتُرانا شعبًا لا يدرك معنى “الجوع” الحقيقي إلا إذا تم استبداله بكلمة “موت” حتى يكون التعبير دقيقًا جدًا ويعبر عن المراد ببلاغة فريدة من نوعها؟ “ميتٌ” من العطشِ… ولا ننسى “الموت” من العطش.

“راني ميت من العطش!” هذه الصرخة التي يطلقها أحدهم بعد أن جف حلقه وكأنه عاش قرونًا في صحراء الربع الخالي. وقد تسمع صيغًا مشابهة مثل: “راح ننشف من العطش!” أو “العطش كلاني!”. هل نحن أمام أزمة “مياه” تهدد “الأموات” الأحياء؟ “ميتٌ” من الضحكِ… بل الأعجب من كل هذا، أننا نفارق الحياة من شدة الضحك! “قتلني بالضحك!”.

وقد يضيف أحدهم: “ضحكت حتى طاحتلي الدمعة!” أو “النكتة قتلتني بالضحك!”. يا إلهي! هل للنكتة هذه القوة الخارقة التي تجعل من مستمعها “جثة” هامدة من فرط المرح؟ هل أصبحت “الفكاهة” سلاحًا بيولوجيًا فتاكًا، ينهي حياة “الضحايا” بجرعة زائدة من “النكت التي من المفروض أن تكون مضحكة لا قاتلة وكأنها نكت سامة أو مسمومة”؟ تُرى، هل ضحكنا يومًا حتى أغمي علينا، ثم أفاق بعضنا ليقول: “الحمد لله، قريب حبس قلبي من الضحك”؟.

يا له من فرح غريب يسبب الموت! “ميتٌ” من التعبِ… وإذا أتى المساء، وبعد يوم طويل من “الموت المتعدد المظاهر”، تراه يهمس: “راني ميت من التعب!” وقد يقول آخر: “التعب هلكني!” أو “مانيش قادر نوقف من العيا!”. وكأن يومه كان معركة طاحنة مع كائنات فضائية تزرع الموت والدمار أينما حلت، وخرج من هذه المعركة الوهمية بصعوبة بالغة، تاركًا خلفه “جثة” مُنهكة لا “جسدًا” مُتعبًا. هل بلغ التعب بنا أن أصبحت أجسادنا أشبه بـ “الأشلاء” المتحركة، التي لا تدرك الراحة إلا بـ “الموت” على “الفراش” الوثير؟ “ميتٌ” من الخلعة… وليس هناك ما هو أسرع في إحداث “الموت” المفاجئ من “الخلعة” أو الفزع الشديد! “راني ميت من الخلعة!” هذه الجملة التي تُسمع بعد موقف مفاجئ، كأن يظهر لك أحدهم من خلف باب، أو تسمع صوتًا عاليًا غير متوقع. وقد تُسمع أيضًا: “خلعتني راح قلبي يتوقف!”. وكأن قلبك كاد أن يقف عن النبض، أو أن روحك كادت تفارق جسدك من شدة الرعب. هل بلغ بنا الأمر أن عواطفنا باتت قادرة على “قتلنا” لحظيًا، ثم تعيدنا إلى الحياة بقدرة قادر لنروي قصة “موتنا” المؤقت ذاك؟ تُرى، هل ينبغي أن نحضر مسعفين لكل من تصيبه “خلعة” مفاجئة، خشية أن يصبح “ميتًا” بشكل دائم هذه المرة؟ “ميتٌ” من الحشمة… أما عن “الحشمة” أو الخجل، فحدث ولا حرج! “راني ميت من الحشمة!” تقال بعد موقف محرج بسيط، أو مجرد كلمة عابرة أثارت حياء مفاجئًا.

وقد يقال أيضًا: “وجهي طاح في الأرض من الحشمة!” أو “بغيت الأرض تنشق وتبلعني من الحشمة!” وكأن وجه صاحبها قد تحول إلى لون “الطماطم الحمراء الطازجة من فرط الخجل الذي “أرداه قتيلًا”. فهل بات الخجل قاتلًا لدرجة أنه يفقد المرء وعيه ويدخله في غيبوبة “حشمة أبدية”؟ تُرى، هل وجب علينا تقديم واجب العزاء لكل من تصيبه “نوبة حشمة” علنية، خشية أن لا يستفيق منها أبدًا؟ “ميتٌ” من القنطة… وعندما تضيق الأنفاس وتصبح الحياة عبئًا، نجد صيغة “راني ميت من القنطة!” أو “راح نموت بالقنطرة!” تعبر عن أقصى درجات الضيق والملل والاختناق من الروتين أو من موقف مزعج. وقد تُسمع أيضًا: “كرهت حياتي من القنطة!” أو “القنطة هبلتني!” وكأن الروح قد فاضت من شدة “القنطة” التي لم تجد متنفسًا لها. هل تُرى هذه “القنطة القاتلة” تشبه السم الزعاف، تتغلغل في الأوصال حتى تودي بصاحبها إلى “قبر الملل”؟ يا له من “موت” بطيء لا يدركه إلا من عايش “لحظات القنطة المميتة”.

“ميتٌ” من البرد… وعند هبوب أدنى نسمة هواء باردة، حتى لو كانت الشمس ساطعة في عز الصيف، تسمع صيحة “راني ميت بالبرد!” وكأن الشخص قد تحول إلى “جثة متجمدة” من شدة البرد الوهمي أو الخفيف. وقد يقال أيضًا: “البرد دخلني للعظم!” أو “تجمدت في بلاصتي!”. هل أصبحت أجسادنا هشة لدرجة أنها لا تتحمل أدنى تغيير في درجة الحرارة دون أن تُصاب بـ “موت” وشيك من الصقيع؟ تُرى، هل يجب أن نحضر المدافئ والمدافئ المتنقلة لكل من يشتكي من “برد قاتل” كهذا، خشية أن نفقده في عز الصيف؟ “ميتٌ” من (السطر) الوجع… وحين تداهمنا الأوجاع، لا نجد أبلغ من وصفها بـ “الموت”! “راني ميت بالوجع!” أو “الضرسة قتلتني بالسطر!” أو “قتلني السطر” (السطر هنا هو الألم الشديد أو الوجع الذي لا يحتمل) تقال هذه العبارات لتصور ألمًا شديدًا، وكأن الجسد قد وصل إلى حافة الانهيار من شدة العذاب. هل للألم هذه القوة الخارقة التي تجعل منا “أمواتًا” على قيد الحياة، نعاني في صمت حتى ترفع عنا “لعنة الوجع القاتلة”؟ فكل وخزة وكل نوبة ألم تصبح “معركة مميتة” في قاموسنا اللغوي. “ميتٌ” من الغيرة… أما عندما تستعر نيران الحسد في الصدور، فلا يمكن وصفها إلا بـ “الموت”! “راني ميت بالغيرة!” تقال هذه الجملة حين يرى أحدهم نجاح غيره أو يمتلك ما يشتهيه، فيصاب بـ “غيرة قاتلة” تكاد تأكل قلبه. وكأن هذه الغيرة قد تحولت إلى “مرض عضال” يفضي بصاحبه إلى “الفناء” الداخلي.

فهل أصبحت الغيرة “سلاحًا بيولوجيًا” يصيب الروح بالضمور، ويودي بصاحبه إلى “مقبرة الحسد”؟ يا له من “موت” عاطفي، ينهي جمال الروح قبل جمال الجسد! والمزيدُ من معاني “الموتِ” في قاموسِنا اليومي… لا يقتصر الأمر على هذا الحد، فكلمة “الموت” تتغلغل في كل زاوية من حياتنا! “راني ميت من الخوف!” (قبل امتحان سهل، أو مقابلة عمل روتينية، يصبح الخوف “كابوسًا مميتًا”). “راني ميت من النعاس!” (بينما لم تمر ساعة على استيقاظه، فالنعاس قد يرسله إلى “سبات عميق لا عودة منه”). “راني ميت من الوحش!” (وهذا عندما يتحدث عن شخص غاب عنه أيامًا أو سويعات أو لحظات معدودة، فـ “الشوق القاتل” يصبح أشد من فراق الدهر). أو “قتلتني الخدمة!” (وكأن العمل اليومي روتين قاتل، ينهي ما تبقى من “قوة الحياة”).

ويبدو أن الحياة لا تعاش إلا بـ “موت” متتابع، نرقص فيه على حافة الهاوية دون أن نسقط فعليًا! وفي الختام، يا أحبابي الكرام، يا من تقرؤون هذا المقال الساخر، هل أدركتم مدى “هيمنة” كلمة “الموت” على قاموسنا اليومي؟ هل بات التعبير عن أقصى درجات الشعور مستحيلًا بدونها؟ هل نحن شعب “ميت” على قيد الحياة أم حي على قيد الموت، أم أنها مجرد تعابير لغوية تفتقر إلى الدقة، ولكنها تضفي على حياتنا نكهة من “الدراما” المبالغ فيها؟ رسالة من كاتب هذا المقال والذي لم يمت بعد ولا يدري متى سيكون الوداع: يا سادة، أنا حقيقة “راني ميت” شوقًا لمعرفة ردة فعلكم وكيفية تفاعلكم مع مقالي هذا. ألا يكفينا “الموت” الحقيقي الذي ينتظرنا جميعًا، لندخله في كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياتنا؟ ألا ندرك أن هذه المبالغة في التعبير قد تفقد الكلمة معناها، وتضعف من وقعها الحقيقي؟ لماذا لا نحيي لغتنا بكلمات تشعل فيها الحياة، تعبر عن المشاعر بصدق وجمال، لا بـ “موت” متكرر لا قيمة له؟ فأنت، يا من تقرأ مقالي هذا الآن، “بِأَشْ رَاكَ مِيتْ الان”؟ هل أنت “ميت” من الفضول لتعرف المزيد؟ أم “ميت” من التفكير في هذه الظاهرة العجيبة؟ أم “ميت” من الضحك على هذا المقال الساخر؟ أخبرني، فـ “الموت” قد يجمعنا في هذه الدنيا مرات عديدة قبل أن نلتقي جميعًا في الآخرة عند رب الأرباب وهذا لن يتم إلا بعد أن نموت موتًا حقيقيًا يختلف عن الموت الذي نتفنن في ذكره كل يوم وبدون معنى!

The post من “راني ميت من الفرحة” إلى “ميت من القنطة” appeared first on الجزائر الجديدة.