“من قسنطينة 1955 إلى غزة 2023: جدلية المقاومة والثورة في مواجهة الاستعمار والاحتلال”

د. عابد حميان */ يحتفظ التاريخ العربي الحديث بمحطات كبرى جسّدت إرادة التحرر ومقاومة الاستعمار والاحتلال، من أبرزها هجوم 20 أوت 1955 في الجزائر خلال الثورة التحريرية، وهجوم 7 أكتوبر 2023 في غزة الذي قادته حركة المقاومة الإسلامية حماس ضد الكيان الصهيوني. ورغم تباعد الأزمنة والسياقات، فإن الحدثين يلتقيان في بعدهما الرمزي والعسكري كمنعطفين حاسمين …

أغسطس 26, 2025 - 13:43
 0
“من قسنطينة 1955 إلى غزة 2023:  جدلية المقاومة والثورة في مواجهة الاستعمار والاحتلال”

د. عابد حميان */

يحتفظ التاريخ العربي الحديث بمحطات كبرى جسّدت إرادة التحرر ومقاومة الاستعمار والاحتلال، من أبرزها هجوم 20 أوت 1955 في الجزائر خلال الثورة التحريرية، وهجوم 7 أكتوبر 2023 في غزة الذي قادته حركة المقاومة الإسلامية حماس ضد الكيان الصهيوني. ورغم تباعد الأزمنة والسياقات، فإن الحدثين يلتقيان في بعدهما الرمزي والعسكري كمنعطفين حاسمين أعلنا أن الشعوب لا تستسلم وأن إرادة الحرية تتغلب على آلة القوة مهما بلغت.
تطرح هذه الدراسة إشكالية جوهرية: إلى أي حد يمكن النظر إلى هجوم قسنطينة 1955 وهجوم غزة 2023 باعتبارهما نموذجين متوازيين في التعبير عن الرفض المطلق للهيمنة الاستعمارية والصهيونية، وبأية آليات تقاطع مسار الكفاح الجزائري مع مسار المقاومة الفلسطينية؟
من حيث الأسباب، جاء هجوم قسنطينة بعد عام من اندلاع الثورة الجزائرية، حين حاول الاستعمار الفرنسي التقليل من شأنها وعزلها عن الشعب، فكان لا بد من عملية نوعية تُسقط دعايته وتُثبت أن الثورة ثورة شعب بأكمله. أما هجوم غزة 2023 فجاء بعد حصار خانق دام أكثر من 17 سنة، وبعد استفحال الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات الإسلامية في القدس والاقتحامات المتكررة للأقصى، إضافة إلى انسداد الأفق السياسي وتعاظم الشعور بأن المقاومة وحدها قادرة على كسر الطوق.
أما الإعداد، فقد اعتمد الجزائريون على إمكانيات محدودة من السلاح التقليدي، لكنهم امتلكوا قوة الإرادة والتنظيم الشعبي الذي قادته جبهة التحرير الوطني عبر خلايا سرية في القرى والمدن. في المقابل، أظهرت حماس مستوى عالياً من التخطيط العسكري والتكنولوجي، إذ هيّأت بنية تحتية تحت الأرض عبر الأنفاق، وراكمت خبرة في تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة، مع تنسيق عملياتي بين وحداتها المختلفة، مما جعل هجوم 7 أكتوبر مفاجئاً وفعّالاً رغم الحصار الخانق.
في لحظة الهجوم، مثّل 20 أوت 1955 انفجاراً ثورياً هزّ الوجود الفرنسي في الشرق الجزائري، حيث هاجمت مجموعات من المجاهدين الثكنات والمراكز العسكرية والإدارية، ما جعل فرنسا تدرك أن الثورة ليست حدثاً معزولاً. أما في 7 أكتوبر، فقد باغتت المقاومة الفلسطينية الكيان الصهيوني بعملية واسعة النطاق، تجاوزت الحدود المحصنة، واقتحمت المستوطنات والمعسكرات، ونجحت في أسر مئات الجنود والمستوطنين، في مشهد غير مسبوق قلب كل الموازين الأمنية والعسكرية.
أما النتائج، فقد كانت في كلا الحالتين مزدوجة. ففي الجزائر، ردّت فرنسا بمجازر رهيبة ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، غير أن الحدث منح الثورة بعداً جماهيرياً واسعاً، وأجبر العالم على الاعتراف بأنها حرب تحرير وطنية. أما في غزة، فقد رد الاحتلال بعنف مفرط عبر قصف شامل أوقع عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى ودمّر البنية التحتية، ومع ذلك حققت العملية مكاسب استراتيجية، أبرزها كسر صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وفرض القضية الفلسطينية مجدداً على رأس الأجندة الدولية.
إن المقارنة بين هجوم 20 أوت 1955 وهجوم 7 أكتوبر 2023 تكشف خيطاً ناظماً واحداً: أن الشعوب المستعمَرة والمحتلة حين تختنق أمام آلة القمع والحصار، تلجأ إلى الانفجار الثوري أو المقاوم، فتُحدث زلزالاً في بنية العدو وتعيد صياغة معادلة الصراع.
وفي الخاتمة، يمكن القول إن هجوم الشمال القسنطيني كان منعطفاً جعل الثورة الجزائرية ثورة كل الشعب، وهجوم غزة شكّل لحظة فاصلة في مسار المقاومة الفلسطينية، رغم التضحيات الفادحة. كلاهما برهن أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن إرادة الشعوب أقوى من جدران الاستعمار وأسوار الاحتلال. وما يجمع بين التجربتين أن الدماء المسفوكة لم تذهب هدراً، بل تحولت إلى ذاكرة جماعية تُلهم الأجيال وتؤكد أن مشروع التحرر العربي لا يزال حيّاً رغم الجراح.

جامعة وهران 1
abedham14@gmail.com