في ذكرى المولد النبوي الشريف من سنّ سنّة حسنة فله أجرها

أ. أبوجرة سلطاني/ ■ ليس كل جديد “بدعة”. فمن سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. وليس كل قديم “سُنّة”. فما أكثر بدع القدماء. وقد وعد الله هذه الأمّة بأن يبعث لها على رأس كل مائة عام من يجدّد لها دينها. ومن معاني السنّة استحداث وسيلة لتذكير الناس بالدّين. …

سبتمبر 2, 2025 - 15:04
 0
في ذكرى المولد النبوي الشريف من سنّ سنّة حسنة فله أجرها

أ. أبوجرة سلطاني/

■ ليس كل جديد “بدعة”. فمن سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. وليس كل قديم “سُنّة”.
فما أكثر بدع القدماء. وقد وعد الله هذه الأمّة بأن يبعث لها على رأس كل مائة عام من يجدّد لها دينها.
ومن معاني السنّة استحداث وسيلة لتذكير الناس بالدّين. ومن معاني البدعة الزّيادة في الدّين بما ليس منه.
■ والاحتفال بمولد المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ليس زيادة في الفرائض ولا في النّوافل، وإنما هو مناسبة للتّذكير بيوم من أيام الله. وذكرى مولده يوم من أيام الله لا يقل عن يوم عاشوراء الذي أغرق الله فيه فرعون وانجى موسى ( عليه السلام) والمؤمنين من قبضة الطغيان. ويوم السابع من أكتوبر 2023م هو يوم من أيام الله..
– فكل يوم تشرق فيه شمس الحق هو يوم من أيام الله.
– وكل يوم تغرب فيه شمس الباطل هو يوم من أيام الله.
فلا أحد يجادل اليوم في أنّ أسباب الغفلة ووسائل اللهو قد طغت على حياة النّاس، وأنّ الأمّة صارت بحاجة ماسة إلى كل وسيلة مباحة تذكّرها بتاريخها وأيامها وأصالتها وهويتها وأمجادها وبالرّسالة التي تحملها إلى البشريّة. وكلما لاحت لها بارقة أمل تعيد نقاش قضاياها الجوهريّة إلى الواجهة وجب على علمائها ودعاتها اهتبالها سانحة لتذكير البشريّة بأمجاد الإسلام واستعراض سيرة المجاهدين ومناقب الشهداء وشمائل القادة وسجايا الأئمة.. ومآثر من صنعوا تاريخ أمتنا التي كان مفتاحها من بعثه الله رحمة للعالمين ليتمّم مكارم الأخلاق.
ولا أحد يجادل في أنّ رأسمال هذه الأمّة هو كتاب ربها وسنّة مصطفاها (صلى الله عليه وسلم). وليس صدفة أن تكون شهادة التّوحيد نصفيْن: نصفًا لتوحيد الألوهيّة بعد نفي الشرك. ونصفًا للتّسليم برسالة الخاتم: “لا إله إلاّ الله. محمّد رسول الله”.
وهو المعنى الذي كان حاضرا في صدور الرّعيل الأوّل، الذي لم تكن به حاجة إلى الاحتفال بمولد يذكّره بنبضات قلبه الحيّ بدين حمله للناس فتوحات تذكرها البشريّة مع كل أذان بأنّ الله واحد، وأنّ محمّدا عبده ورسوله. فذلكم جيل قرآني لا حاجة له بالاحتفال بمولد النور ولا بالتذكير بصاحب الرسالة..
■ أما اليوم فقد طال على الناس الأمد فقست قلوبهم واحتاجوا إلى تذكير بالبديهيات التي غطاها الضجيج الإعلامي. واحتاجوا إلى كل فرصة تتاح لتذكيرهم بتاريخهم وبأمجادهم. وكل من يذكر الأمة بثوابتها إنما سنّ سنة حسنة لها ولمن أحياها وعمل بها بنية تجديد العهد مع الله والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم. وله أجر كبير يودعه الله في قلب كل مؤمن يسعد بمولد خير الأنام عليه الصلاة والسلام.
■ إنّ التّعلّل بأنّ الصّحابة والتّابعين لم يحتفلوا بالمولد النبوي الشريف، ولا بغزوة بدر ولا بفتح مكة.. قفْزٌ على الحقائق وتنكّرٌ لطبيعة هذا الدّين، الذي كان في زمانهم حاضرا ـ في القلب والعقل ـ لا يحتاج إلى تذكير ولا إلى مناسبات يلتقي فيها المسلمون على “مشترك واسع” يتذاكرونه في ما بينهم ليعيدوا تماسك جسد واحد فصار اليوم أوزاعا تتنازعه القوى الكبرى ويطمع في استكمال تمزيقه حفدة القردة والخنازير.
كان هذا الدّين حيّا في قلوب السابقين، متحرّكا في يومياتهم، حاضرا في أخلاقهم، فاعلاً في سلوكهم، يحيونه لحظة بلحظة، ويتنفّسونه في حلهم وترحالهم، ويراه الناس في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وتجارتهم وصناعتهم وشؤونهم السياسيّة والمدنيّة..
ولأنهم كانوا على هذا الحال فلم يكونوا محتاجين إلى التّذكير بما هو قريب من مشاعرهم. ولا هم بحاجة إلى إحياء أيام الله تعالى باحتفالات ولا بذكريات، لأنّها كانت حيّة فيهم وحاضرة في تدينهم. ولم يكونوا بحاجة إلى دروس كثيرة في الدّين، ولا إلى خطب طويلة تذكّرهم بواجباتهم. وإلاّ: فقل لي بربك أين هي خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي ألقاها في الناس على مدار ثماني سنوات (بمعدّل 52 خطبة جمعة في السّنة، وخطبتان للعيدين. أيْ إن خطبه قد بلغت إحصائيا 432 خطبة!!)؟
هل يستطيع عالم أن يدلّنا اليوم عليها؟؟ ويبيّن لنا فحواها. وأين هي؟؟
أين هي هذه الخطب؟ وأين هي خطب الصدّيق والفاروق وذي النّورين..؟
الجواب، أنّ الرّعيل الأوّل لم يكونوا بحاجة إلى خطب تذكّرهم بواجباتهم، فقد كانوا جنودا يكفيهم الإيعاز والإيجاز. فكانت خُطب أئمّتهم مواعظ قصيرة وتوجيهات مقتضبة.. كان أكثرها أحاديث نبويّة وتلاوة سور وآيات من كتاب الله تعالى، لأنّ الدّين والحياة كانا في حياتهم توأميْن متساندين متعاونيْن على إقامة الدّين بالدّنيا وعلى سياسة الدّنيا بالدّين.
فلما أتى على الناس حين من الدّهر، انشغلوا فيه بالسّفاسف وبالفتيا في جواز أكل لحم الضبّ!! وجواز الصلاة بدم البرغوث!! وفتوى إرضاع الكبير!! وجهاد النكاح!! والجهاد بالسنن..!! فارق السّلطان القرآن وعاداه، وضاقت وسائل الدّعوة. فاحتاج علماء الأمّة المتفتّحون على حركة التاريخ إلى أن يجدّدوا الدّين بالحديث عن أيام الله.. وينوّعوا وسائل الدّعوة بالحديث عن فقه السنن، فسنّوا سننا حسنة لا تتعارض مع تكاليف الشّريعة حلاّ ولاوحُرْمةً. ولا تتعاند مع الفرائض زيادةً ولا نقصانا. ولا تعاكس حدا من حدود الله تعطيلا ولا تعجيلا. ولا هي بدائل عن عبادة المعبود الواحد (جلّ جلاله) تثنيّة ولا تثليثا. ولا مخالفة لما شرَع الله لنا من الدين وما وصى به رسله.. إنما هي دعوات إلى اتّخاذ أيام الله فرصا للتّذكير بالدّين فحسب.
ومن أعظم أيام الله: يوم عرفة. ويوم الحج الأكبر. ويوم ميلاد محمد بن عبد الله. ويوم نزول الوحي. ويوم الهجرة. ويوم عاشوراء. ويوم فتح مكّة. وسائر فتوح الإسلام..
فالاحتفال بها وسيلة لشكر الله تعالى وحمده على أن أخرجنا بفضله من الظلمات إلى النّور، ولا صلة لذلك بالبدعة المعرّفة في الدّين بأنها «اختراع طريق في الدّين لا أصل لها في الكتاب والسنّة». فلا أحد من علماء الإسلام يقبل الزّيادة في الدّين ولا الانتقاص منه بعد أن أكمله الله وأتمه.
ـ لا أحد قال: إنّ الاحتفال بالمولد النّبوي الشّريف عيد ثالث للمسلمين بعد عيديْ الفطر والأضحى. وإنما هو يوم من أيام الله تحتفي به الأمة شكرًا لله وحمدا على بعث رسوله بالهدى ودين الحق..
ـ ولا أحد قال: إنّ الاحتفال به فريضة ولا نافلة ولا رغيبة. من تركها كان آثما. وإنما هي فرصة سنويّة لإحياء القلوب بحبّ المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وتذكير العقول بسيرته العطرة وتنبيه الغافل إلى رسالته في الوجود. وكل ذلك مباح كونه وسيلة لزيادة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكير النشء به.
■ فالأصل في الوسائل الإباحة ما لم يرد مانع، وأيام الله يُندب فيها كثرة الذّكر والشّكر والدعاء والفرار إلى الله، والتذكير بها واجب شرعي لقوله تعالى: “وَذَكِّرْهُمْ بِأيَّامِ اللهِ” إبراهيم: 5. وربطها بالصّبر والشّكر. وأصل الاحتفال لا غبار عليه من جهة التّأسيس، وليس للمعترضين أيُّ حجّة شرعيّة دالّة على المنع، سوى القول: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يفعلها ولم يفعلها الصحابة ولا التابعون إلى نهاية العصر العباسي..!! وإنما هي «بدعة» فاطمية..!!
ولو خضنا في هذه المسألة لوجب شطب صفحات كثيرة من تاريخ الإسلام وهدم صوامع وبيع وصلوات ومساجد..
وليس للقائلين بالجواز حجّة شرعيّة تؤكّد الوجوب. وهو ليس واجبا؛ لكنّ من حقّ الفريقيْن مناقشة ظواهر الاحتفال به لتطهيره من الإفراط في الغوغائيّة ومن.السّرف في الفرح ومن الغلو في البهرجة ومن الألعاب النارية.. والانتحاء به إلى مقاصده الكبرى، وهي كثرة الذّكر والشّكر والدّعاء والصّلاة على من أرسله الله رحمة للعالمين.
■ فما أوسع الفرق بين أصل الاحتفاء المعبّر عن الفرحة بميلاد النّور وبين الطّرق المفرطة في الاحتفال بالمولد والتعبير عن الحبّ بشكل يخرج يوما من أيام الله عما أريد له أن يكون عليه، فيصير سبيلا للتّجارة والرّياء والمظاهر الماديّة التي لا روح فيها، وقد ينحو منحى احتفالات النّصارى بمولد المسيح (عليه السلام): خمور، وفجور، ورقص، وأشجار سروٍ وصنوبر وأرزّ..
وما بُعث عيسى (عليه السلام) بهذا. وما تغنى وما تمنى وما تدنى.. وكان يجب على المحتفلين بميلاده أن يذكّروا بما أوصاهم هو نفسه به في الآيات: 30/33 من سورة مريم.
■ ليست البدْعة في فرحة الأمّة بميلاد رسولها، وليست البدعة في التّذكير بمناقبه ومدارسة سيرته والدندنة حول سُنّته، ولا في التعبير عن فرحتها بميلاده واعتزازها بالانتساب إليه.. ولا حتى في إنشاد (طلع البدر علينا).. وإنما البدعة في أن تنحرف هذه الأفراح عن مقاصدها من الذّكر والشّكر والحمد والدّعاء والصّلاة على الرّحمة المهداة وفرحة الأمة ببزوغ نورها.. إلى زخارف وبهارج ومكاء وتصديّة.
■ فمقصد الاحتفال هو إحياء ما عاش المُحْتفى به لأجله ومات في سبيله نورا ورحمة وشفاء لما في الصدور.. وليس اتّخاذ المناسبة فرصة لتشويه سنّته وتحريف سيرته. فحقائق الإسلام ثابتة بالكتاب والسنّة وما سواهما.. فاجتهادات بشر متدرّجة في المراتب من الإجماع إلى الرّأي الرّاجح. وكل ما يقرّب العبد من ربّه ويذكره بأيامه فهو طاعة، وما يبعده عنه فهو معصيّة،
– فالإفراط في التّقديس انحراف عن الجادّة.
– والتّفريط في أيام الله تعطيل لبعض مقاصد الإسلام.
– والتوسّط بينهما هو المنهج القويم والصّراط المستقيم.
والله أعلم بمن اهتدى واقتدى. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.