صناعة الحياة وصناعة الموت: قراءة معمقة في واقعنا

د. بن زموري محمد/ في رحلة الفكر الطويلة، ظهرت عبارات تلخص مأساة الإنسان حين يغفل عن رسالته، ومن أعمق هذه المعاني: «من لا يحسن صناعة الحياة، يحسن صناعة الموت» ليست هذه حكمة عابرة، بل هي خلاصة تجربة أمم كثيرة، تحولت فيها الحياة إلى موت بطيء حين فقدت القدرة على البناء، وأهملت أسرار النهوض. صناعة الحياة …

مايو 28, 2025 - 11:04
 0
صناعة الحياة وصناعة الموت: قراءة معمقة في واقعنا

د. بن زموري محمد/

في رحلة الفكر الطويلة، ظهرت عبارات تلخص مأساة الإنسان حين يغفل عن رسالته، ومن أعمق هذه المعاني: «من لا يحسن صناعة الحياة، يحسن صناعة الموت» ليست هذه حكمة عابرة، بل هي خلاصة تجربة أمم كثيرة، تحولت فيها الحياة إلى موت بطيء حين فقدت القدرة على البناء، وأهملت أسرار النهوض.
صناعة الحياة ليست شعاراً أجوف، ولا حلمًا بعيداً، بل هي مسيرة تبدأ من الداخل: من يقظة الضمير، ومن بناء الفرد الذي يحمل همّ أمته، ويشعر أن كل يوم يمر بلا عمل جاد هو انتقاص من عمر أمته. أن تصنع الحياة يعني أن تؤمن أن كل حركة وكل علم وكل إنتاج هو إسهام في بقاء أمتك حية قوية.
صناعة الحياة هي احترام الزمن، واستثمار الطاقات، وتقديس العمل، وإحياء الفكرة، وتحويل الحلم إلى مشروع، والمشروع إلى واقع، والواقع إلى حضارة تخطو في الأرض بثبات.
إن بناء الإنسان الصالح المنتج هو اللبنة الأولى. والعناية بالعلم والمعرفة، واحترام الفكر الحر، ورعاية القيم الخلقية العليا، هي جسور لابد منها لعبور هوة التخلف.
أمة تحسن صناعة الحياة هي أمة تتقن الزراعة والتجارة والصناعة، وتبدع في الفكر والفن والعلوم، وتصنع نموذجها الخاص في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وتسعى دوماً إلى التطور لا إلى الاستهلاك.
أما حين تتعطل هذه الروح، ويصبح الفرد عبئًا على الحياة لا وقودًا لها، تبدأ صناعة الموت.
وصناعة الموت لا تكون فقط بالقتل المباشر، بل تبدأ حين تُقتل العقول بالخرافة والجهل، وتُقتل الإرادات بالكسل والاتكالية، وتُقتل الأحلام باليأس والإحباط، وتُقتل المجتمعات بالفساد والاستبداد.
أمة تتوقف عن الإبداع والعمل تصبح جثة هامدة في حضن التاريخ، وقد تنهار دون حاجة إلى رصاصة واحدة من عدو، إذ يكون الهدم قد بدأ من الداخل.
واقعنا اليوم، بكل أسف، يشهد على ذلك.
لقد فتحت كثير من بلداننا أبوابها للفراغ الفكري، وسمحت للفساد أن ينخر في قوامها، وقبلت أن تكون تابعة بدل أن تكون رائدة.
ثروات مهدورة، طاقات معطلة، عقول مهاجرة، وشباب يتخبط بين الترف الفارغ أو الإحباط القاتل.
فبدل أن تكون الجامعات مصانع للحياة، أصبحت غالباً طقوساً شكلية؛ وبدل أن تكون المصانع منارات للنهضة، تحولت إلى أطلال ينعق فيها الخراب.
وهذه الحال ليست قدراً محتوماً، بل عبر التاريخ أمم كثيرة سقطت ثم نهضت.
اليابان بعد الحرب العالمية الثانية نهضت من تحت ركام الهزيمة، فصنعت لنفسها مكانة مرموقة بين الأمم بالعلم والانضباط والعمل.
ألمانيا بعد الدمار الكارثي أعادت بناء اقتصادها ومجتمعها حتى أصبحت قوة عالمية.
تركيا في العقود الأخيرة، رغم كل التحديات، صنعت جزءًا من نهضتها الاقتصادية والسياسية بالاعتماد على الذات.
فما الذي يمنع أمة الإسلام من أن تعود؟ وهي التي تحمل في رصيدها العقيدة النقية، والرسالة الخالدة، وتراثاً عظيماً من العزة والعلم والتمدن.
إن الطريق يبدأ من صناعة الحياة في النفوس أولاً:
غرس الإيمان بالقدرة على التغيير.
الإيمان بأن كل فرد مسؤول.
الإيمان بأن الحياة الكريمة لا تهدى ولكن تُنتزع بالجد والكفاح.
نحتاج أن نعيد ترتيب أولوياتنا، أن نعلي من قيمة العلم والعمل والإنتاج، وأن نزرع في كل قلب رسالة: أنك هنا لتبني، لا لتستهلك فقط؛ لتضيف شيئاً لهذا الوجود، لا لتكون رقماً تافهاً في عداد الموتى الأحياء.
فيا من تؤمن أن أمتك تستحق الحياة:
اصنع شيئاً، ولو صغيراً.
ضَعْ لبنة، ولو ضئيلة.
ازرع أملاً، ولو بدا بعيداً.
وتذكر دائماً أن الأمم لا تنهض بالخطابات بل بالأعمال، ولا تبنى بالشعارات بل بالتضحيات.
بين الحياة والموت مسافة قرار، وإرادة صلبة، وعمل دؤوب.
فاصنع حياتك بيدك قبل أن يفرض عليك الموت مصيرك.