أثر التثليث المسيحي على تثليث بعض الديانات الشرقية
بن دريسو مصطفى بن محمد/ من المتفق عليه بين أهل الأديان أن الديانات الشرقية أقدم بكثير من بعض الديانات الوضعية والسماوية، فمثلا تسجل الهندوسية نفسها كأعرق ديانة في المعمورة، لها وجود قبل أزيد من ألف سنة من ميلاد المسيح عليه السلام (قبل 1750 سنة قبل الميلاد)، أي أنها أقدم من الديانة المسيحية، وقد تبلورت ديانتها …

بن دريسو مصطفى بن محمد/
من المتفق عليه بين أهل الأديان أن الديانات الشرقية أقدم بكثير من بعض الديانات الوضعية والسماوية، فمثلا تسجل الهندوسية نفسها كأعرق ديانة في المعمورة، لها وجود قبل أزيد من ألف سنة من ميلاد المسيح عليه السلام (قبل 1750 سنة قبل الميلاد)، أي أنها أقدم من الديانة المسيحية، وقد تبلورت ديانتها مع قدوم المجتمعات الآرية -الهندو أوروبية والإيرانية- إلى الهند، واندماج أعراقهم ولغاتهم وتشكيلهم اللغة السنسكريتية، وهي اللغة القديمة التي دُوِّنت بها الكتب المقدسة الهندوسية، كتاب الفيدا (Vedas)، الذي يضم أوصاف الآلهة، ومجموعة من النصوص الدينية، والترانيم، والأناشيد، والتعاويذ.
وفي القرن الخامس قبل الميلاد برزت الديانة البوذية في الهند، نسبة إلى شخص يسمى «سيدهارتا غوتاما» (Siddhartha Gautama) بلغ الاستنارة الكلية فصار يدعى «بوذا»، أي: المستنير، أو الذي بلغ مرحلة «النيرفانا» (Nirvana)، أو مرحلة الموكشا (Moksha)، وهي مرحلة التحرر الكلي من معاناة الحياة، ومن الولادات المتكررة للروح. وكذلك في ذلك التاريخ تقريبا ظهر شخصان معاصران في الصين، الأول يسمى لاوتسي (laoTzu) الحكيم والفيلسوف، والثاني يدعى «كونفوشيوس» (Kong Fuzi) المعلم.
نسبت إلى الأول الديانة الطاوية التي لها الكتاب المقدس «تاو تي تشينغ» (Tao Te Ching)، الذي يحتوي على مفاهيم «الطاو» الداعية إلى الانسجام مع الطبيعة ومع الحياة الصحية المتوازنة، وإلى اتباع المبدأ الكوني المطلق والنظام الديناميكي اللَّذَين يحكمان الكون.
أما الثاني فنسبت إليه الديانة الكونفوشيوسية المعتمدة على التأمل الذاتي لتحقيق الانسجام الداخلي والخارجي للفرد مع نفسه، ولاكتساب الأخلاق والقيم الاجتماعية المعتدلة، وإعطاء الشرعية للحاكم بحسب ما تمنحه السماء «تيان»، أو القوة الكونية، وتتحصل هذه الغايات الكونفوشيوسية باتباع التعاليم الواردة في «الكتب الأربعة الكلاسيكية»، وفي أداء طقوس «اللي» (Li).
هذه عينة من الأديان الشرقية ظهرت -حسب المؤرخين- قبل المسيح عليه السلام بقرون كثيرة. ومنه يأتي السؤال العفوي التالي:
هل هناك تشابه في مفهوم الإله بين بعض هذه الأديان الشرقية وبين إحدى الديانات السماوية؟
للإجابة عن هذا السؤال يتطلب منا أن نستعرض مفهوم الإله في الديانات السماوية والديانات الوضعية، ونبدأ بالديانة السماوية اليهودية، التي نجد أتباعها يؤمنون بالإله الواحد غير المجسد، ويطلقون عليه «يهوه»، أو «إيلوهيم»، أو «أدوناي»، ويعتبرونه خالق الكون، والمصدر الوحيد للتشريع والأخلاق، ويضيفون إلى ما سبق مبدأ تقييد سلطة الإله بسطوتهم عليه، وعدِّه إلها لهم من دون غيرهم، وذلك بدعوى أنهم أحباؤه وشعبه، وأن بقية الخلق -الأمميين- سينالون رضى هذا الإله الواحد وشفاعته عن طريق ركوعهم لليهود وابتاع بروتوكولاتهم، من دون فرضية الالتزام بالتشريعات التي فرضها الإله على الشعب المختار.
وإذا أتينا إلى الإسلام، فإن المعتمد فيه منذ بدء الخليقة التوحيد الخالص لله الواحد الأحد، واستحقاق العبودية له وحده دون غيره من الشركاء أو الأنداد، تجسيدا لقوله تعالى في كتابه العزيز: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُؤًا اَحَدٌ}، (سورة الإخلاص: 1- 4).
أما الديانة السماوية الثالثة وهي المسيحية المتأخرة عن الديانات الشرقية، فإن ما ورد في كتابها المقدس؛ العهد الجديد، ورسائل الرسل، وتعاليم الكنسية وقرارات مجامعها فأن الإله عندهم يتجسد في ثلاثة أقانيم (Persons): الآب، والابن، والروح القدس.
فالآب: هو المصدر الأول والأزلي للألوهية، وهو الخالق والمدبر للكون. واليسوع المسيح هو ابن الله، والكلمة المتجسدة له، وهو الـمخلِّص للبشرية من الخطيئة. أما روح القدس فهو القوة الفاعلة لله في العالم. ويعتقد المسيحيون أن الثالوث الأقدس هو جوهر العقيدة المسيحية.
وإذا عدنا نستعرض تفاصيل مفهوم الألوهية في الأديان الشرقية فإننا سنجد توافقا شبه كلي بين ديانتَين شرقيتَين وبين المسيحية من حيث الحديث عن التثليث كعقيدة أساسية في تركيب عنصر الإله، وهذا بيان ذلك.
1- الهندوسية: تتمتع هذه الديانة بإله أعلى يُعرف باسم «براهمان»، وهو الحقيقة المطلقة والجوهر الكوني. ولهذا الإله تجليات أو «أفاتارا» أساسية تظهر في أشكال ثلاثة، هي:
براهما: الخالق. وفيشنو: الحافظ والراعي للكون. وشيفا: المدمر والمجدد.
وهناك إلهة أنثوية أساسية أيضا تدعى «ديفي»: وهي إلهة الأم، والإلهة الخاصة برحمة الكون.
2- الطاوية: يركز الصينيون الطاويون على مصطلح «الثلاثة الأنقى»، باعتبارها كيانات إلهية أساسية، وتجليات أعلى للآلهة، ومظاهر للطاقة البدائية التي انبثق منها الكون، وهؤلاء الثلاثة هم:
– يوانشي تيانتسون: المبجل السماوي للبداية، ومصدر الطاقة الكونية الأولى، والشرارة التي أدت إلى خلق الكون وتركِه يتطور لوحده، دون أن يتدخل هذا الإله في تسيير كونه بشكل مباشر. ولينغباو تيانتسون: هو التجلي الثاني للطاو، وهو المسؤول عن الطاقة الكونية، وقوانين تنظيم الكون. وداودي تيانتسون: وهو التجلي الثالث للطاو، ويشار إليه بالمؤسس الحكيم لهذه الديانة «لاوتسي» (laoTzu).
وإلى جانب هذه الآلهة «الثلاثة الأنقى» في الطاوية يوجد عدد كبير من الآلهة الأخرى، منها إلهه أساسية: الملكة الأم للغرب: وهي إلهة قوية ترتبط بالخلود والجنة الغربية.
النتيجة المتوصل إليها مما سبق أن هناك تشابها في مفهوم الإله بين بعض الأديان الشرقية وبين الديانة السماوية المسيحية، ويتمثل أساسا في التثليث وفي تقديس إلهة أنثى، وهو ما يجرنا إلى السؤال التالي:
ما هي الديانة التي أثرت في الأخرى؟ هل الديانات الشرقية المعزِّزة للثليث هي التي أثرت في المسيحية، أم العكس؟
إن الجواب السريع عن السؤال، ومن خلال اصطحاب عامل التاريخ سيجرنا إلى احتمال أن المسيحية هي التي تأثرت بتثليث الديانات الشرقية المتقدمة عنها بقرون عدة. ولكن هذا الجواب سيوقعنا في إشكال آخر مفاده، لماذا ركز الله تعالى في القرآن الكريم على تشنيع التثليث المسيحي وتأليه أم عيسى عليه السلام دون الإشارة إلى التثليث الأصلي في الديانات الشرقية؟ إذ من المفترض أن الأولى في قضية معقدة مثل الألوهية أن يتحدث القرآن عن مبدع الكفر الأول، لا الذين اتبعوهم في الضلالة، ويركز على المؤثِّر لا المتأثِّر، عند قوله تعالى للمسيحين: {لَّقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنِ اِلَهٍ اِلآَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ}، (سورة المائدة: 73). وقوله أيضا: ]مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَاكُلاَنِ الطَّعَامَ[، (سورة المائدة: 74).
لا نُخفي أن الجواب عن هذا السؤال العميق سيجرنا إلى اكتشاف أسرار خفية، ويزيل اللثام عن خفايا مطمورة، ذلك أن القرآن الكريم أقر لنا بأنه {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، (سورة الأنعام: 34)، وهذا يفضي إلى أن تركيز القرآن على التثليث يدل على أن المسيحية هي مبدعة التثليث، وأن الأديان الأخرى؛ الهندوسية والطاوية فإن التثليث عندهم عارض.
ولفك هذا الإشكال العويص، ينبغي أن نبحث عن الفترة التاريخية التي التقى فيها الجمعان؛ المسيحية والأديان الشرقية، وبالرجوع إلى التاريخ سنجد أن الفترة الزمنية الأولى لاحتكاك هذه الأديان فيما بينها تعود إلى الفترة الاستعمارية الأوروبية للقارة الأسيوية، ولا سيما جهود العالم الألماني ماكس مولر (Max Müller) المتوفى سنة 1900م، حين أخذ هذا العالم المتجنس بالجنسية البريطانية يهتم بمقارنة الأديان، وتعلم اللغات الشرقية وعلى رأسها السنسكريتية، فأهدى للغرب كتاب الفيدا الهندوسي مترجما إلى اللغة الإنكليزية، ومن ثَـمَّ أخذ المستشرقون ينقِّبون عن كتب الهند، وغير بعيد أنهم صاروا يوجهون النصوص الشرقية المقدسة بحسب فهمهم، وبما تشبعوا به من معتقدات وثقافات، وعلى رأس الأمر، معتقد التثليث، وتعظيم ثلاثة آلهة، وإلهة امرأة، فبهذا ستتقرب المجتمعات الشرقية من الغرب، وستتقبلهم في بلاهم، وتخف سطوة مجابهتهم في الأراضي المستعمرة، وهو ما تحقق للغرب، وخسره الشرقيون الذين غُرر بهم، واستُخف بعقولهم، مثلما استخف الطغاة الفراعنة في التاريخ بالمهندسين الفاسقين المشيدين لأضخم البنايات التي عرفها الإنسان، وهي الأهرامات لأجل إشاعة الحاكم الإله.
وبوصولنا إلى هذه النتيجة فإننا نربأ بالشرقيين المتأثرين بالمستدمرين المسيحيين أن يراجعوا نصوصهم بعمق أكثر، ومن دون خلفيات التثليث، ويحاولوا فك رموز لغتهم السنسكريتية بعيدا عن الفهوم التي جرتها إليهم الحضارة الغربية الأكثر قوة والأشد آثارا وتأثيرا.