هندسة بين الترتيبات الأممية والإرادة الشعبية

“الأستاذ: العابد بكاري” باحث في العلوم القانونية والاقتصادية يقول البطل المجاهد عمر المختار: “نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت” و” إن موتي ليس النهاية؛ سيكون عليكم مواجهة الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي”. فها هو يمر قرابة عقد ونصف من تاريخ ثورة 17-02-2011 التي أطاحت بنظام حكم …

يوليو 9, 2025 - 07:42
 0
هندسة بين الترتيبات الأممية والإرادة الشعبية

“الأستاذ: العابد بكاري”
باحث في العلوم القانونية والاقتصادية

يقول البطل المجاهد عمر المختار: “نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت” و” إن موتي ليس النهاية؛ سيكون عليكم مواجهة الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي”. فها هو يمر قرابة عقد ونصف من تاريخ ثورة 17-02-2011 التي أطاحت بنظام حكم القذافي بليبيا الذي استمر لمدة اثنتين وأربعين سنة على أمل التأسيس لدولة ديمقراطية متحضرة تقوم على مؤسسات منتخبة تضمن الحياة الكريمة لمواطنيها، ويكون لها موضع قدم في الساحة الدولية، إلاّ أن وضع البلاد منذ ذلك التاريخ يشهد انشطارات حادة وحكما تتقاسمه حكومة الوحدة الوطنية بالغرب بطرابلس بقيادة عبد الحميد دبيبة المعترف بها دوليا والمسيطرة على المؤسسات المالية، وحكومة بالشرق ببنغازي برئاسة أسامة حماد غير معترف بها دوليا، ولكنها مسنودة بقوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر ومدعومة من أطراف دولية أخرى، ومجلس نواب منقوص النصاب في معظم جلساته برئاسة عقيلة صالح، ومجلس دولة بدون أدوات تنفيذية، ومجلس رئاسي بأعضاء متناحرين، وهنا نقف أمام التساؤلات التالية: ما هي أسباب تعطل تأسيس الدولة الليبية؟ وما هو تأثير التدخلات الأجنبية في تأجيل فكّ شيفرة معضلة الدولة الليبية؟ وما هي الحلول المقترحة لفض الأزمة الليبية والتوصل إلى مؤسسات منتخبة تحقق الإقلاع السياسي والاقتصادي المنشودين؟
‪ ‬‬
‪ ‬‬
التسوية بين الأطراف الليبية المتنازعة
‪ ‬‬
في إطار التسوية بين الأطراف الليبية المتنازعة وبرعاية الأمم المتحدة وتنفيذا لمخرجات اتفاق الصخيرات ديسمبر2015 تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي المشرف على الحكومة برئاسة فايز السراج بهدف توحيد مؤسسات الدولة وإنهاء الانقسامات المؤسساتية، وكذا تأسيس مجلس النواب بعد انتخابات مباشرة بمدينة طبرق شرق البلاد استنادا للإعلان الدستوري الصادر في 14-08-2014، والذي أبدى رفضا تاما لحكومة الوحدة الوطنية ولم يمنحها الثقة اللازمة، كما تم تأسيس المجلس الأعلى للدولة وفقا لاتفاق الصخيرات أيضا كهيئة استشارية من مهامه الأساسية دعم مجلس النواب بالآراء الاستشارية والمشاركة في الحوار السياسي، والسعي إلى تحقيق الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي.
كما أنه يمكننا أن نوعز جذور وخلفيات هذا التناحر أساسا إلى هجوم المشير حفتر على طرابلس سنة2019 زعما منه في الظاهر تحرير العاصمة من الميليشيات العسكرية، وفي حقيقة الأمر ومن خلال الكثير من القرائن كان يسعى لإسقاط حكومة الوحدة الوطنية والسيطرة على العاصمة وحسم الصراع العسكري والسياسي لمصلحته، لكن التدخل التركي بدعوة من فايز السراج في أواخر 2019 لتوفير المساعدة العسكرية حال دون ذلك بدعم قوات حكومة الوحدة الوطنية بالطائرات المسيرة والخبراء العسكريين، مما أدى إلى إفشال الهجوم وانسحاب القوات سنة 2020، الأمر الذي دفع بحفتر إلى إعادة تنظيم السلطات ببنغازي ورفض الانخراط في حكومة الوحدة الوطنية سنة 2022 وتشكيل حكومة موازية برئاسة باشغا ثم من بعده أسامة حماد بهدف رفض مشاركة السلطة مع الغرب وإضعاف شرعية حكومة الوحدة الوطنية، والسيطرة على الموارد المالية والمؤسسات العامة.
هذا الوضع البائس والانقسام في الرؤى واختلاف الاصطفافات صعّب على كل هذه الأجسام السياسية سواء أكانت تنفيذية أو تشريعية من الوفاء بالتزاماتها والمثال على ذلك: الفشل في إجراء انتخابات رئاسية برلمانية متزامنة بتاريخ 24-12-2021 بسبب الخلاف حول الشروط القانونية والدستورية للترشح، تهديدات أمنية في الكثير من المناطق، فشل حوارات القاهرة وجنيف للتوافق على قاعدة دستورية سيما حول ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية، دور المحكمة الدستورية وصلاحيات الرئيس، العجز في تجديد أكثر من 70 مجلس بلدي منتهي الولاية، عدم التمكن من توحيد المؤسسات، حكومة واحدة جيش واحد، مؤسسات النفط، والمصرف المركزي..الخ ، مما دفع بأغلبية المواطنين إلى العزوف التام عن تناول السياسة والكفر بكل الأجسام التي تعرقل كل حل أو انفراج للأزمة بسبب تضارب مصالحها والإصرار على بقائها في السلطة.
‪ ‬‬
‪ ‬‬
المشهد الليبي وتضارب المصالح الداخلية والإقليمية
‪ ‬‬
‪ ‬‬
وفي المقابل دأبت هيئة الأمم المتحدة منذ سنة 2011 إلى غاية سنة 2025 عبر سبعة من مبعوثيها وسط تعقيدات المشهد الليبي وتضارب المصالح الداخلية والإقليمية على السعي إلى معالجة الأزمة بداية مع برناردينو ليون 2014 إلى 2015 الذي أشرف على حوار الصخيرات وتشكيل حكومة الوفاق، ثم مارتن كوبلر 2015 إلى 2017 اهتم بتنفيذ اتفاق الصخيرات ولم يوفق في دمج المشير خليفة حفتر في إطار المسار السياسي، ثم غسان سلامة 2017 إلى 2020 صمم خارطة طريق جديدة سنة 2018 وأشرف على مؤتمر برلين(1) سنة 2020 فشل في وقف هجوم حفتر على طرابلس. ثم ستيفاني ويليامز 2020 إلى 2021 إدارة الحوار السياسي الليبي، انتخاب حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، دعم وقف إطلاق النار بين الغرب والشرق الليبي. ثم يان كوبيش 2021 إلى 2022 أشرف على مؤتمر برلين(2) 2021 فشل في إنجاح الانتخابات الرئاسية والتشريعية المتزامنة في 24-12-2021 ضعف في الأداء وتقديم المبادرات. ستيفاني ويليامز تجديد الثقة إلى غاية 2022 محاولة جمع مجلسي النواب والدولة للتوافق على قاعدة دستورية، وتقريب وجهات النظر لكن دون تحقيق توافق ملموس. عبد الله باتيلي 2022 إلى 2024 وضع خطة لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة نهاية سنة 2023، تعذر تحطيم الجمود بين الأطراف المتصارعة بليبيا، وقد أفاد عند استقالته أن الأطراف لا تريد حلا. من منتصف فبراير سنة 2025 إلى يومنا هذا هانا تيتي التي أشرفت على اللجنة الاستشارية المنبثقة عن بعثة الأمم المتحدة والتي خلصت إلى صياغة أربعة خيارات تتمثل في: أولا-إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة في ظرف سنتين. ثانيا-انتخابات تشريعية أولا + دستور. ثالثا-دستور أولا ثم انتخابات. رابعا-استحداث لجنة تأسيسية دستورية تمثل كل أطياف المجتمع لصياغة الدستور قبل الخوض في الاستحقاقات الانتخابية. وقد جرى مناقشتها بتاريخ: 20،19-06-2025 خلال مؤتمر برلين(3) حيث دعا بيان المؤتمر إلى دعم مشروط للمجلس الرئاسي، والتلميح بمحاسبة معرقلي المسار السياسي دون الكشف عن أسمائهم، والتحذير من خطر الانفجار الاقتصادي دون ذكر آليات واضحة للتنفيذ، وبتاريخ 25-06-2025 قامت المبعوثة الأممية بتقديم إحاطة على مستوى مجلس الأمن حذرت من خلالها من الخطر الذي يهدد الأمن الليبي بسبب احتدام الصراع بين الميليشيات، والتدهور الاقتصادي بسبب الإنفاق المزدوج في غياب أجهزة الرقابة، وضرورة إنهاء الانقسام السياسي وتوحيد المؤسسات، كما التزمت بتقديم خطة طريق واضحة المعالم محددة بالآجال الزمنية لتجسيد الاستحقاقات الانتخابية، والفصل في تبني أحد الاختيارات الأربعة المقترحة على أقصى تقدير شهر أوت 2025، مما أثار رفضا صارخا من بعض الأجسام لسبب أن مثل هذه المخرجات تهدد مصالحها وامتيازاتها، وكذا تنظيم تظاهرات شعبية تطالب بالحلول الملموسة والسريعة حريّ بالبعثة توظيفها للضغط أكثر على الأجسام للتخلي عن مواقعها، وهنا يلاحظ على الرغم من الجهود المبذولة إلا أن الأطراف الدولية بما في ذلك البعثة الأممية لا زالوا يعتمدون ذات التوصيفات والحلول القديمة التي تعمل على تدوير الأزمة دون فك شفرتها، الاعتماد على ذات الأجسام السياسية التي تمثل جزءا من المشكل لا السعي إلى الوصول لإرادة الشعب الليبي الحقيقية الذي سئم وفقد الأمل في هذه الأجسام التي لا تريد التخلي عن مناصبها ولو كلفها ذلك حياتها، يتأكد أيضا أن الأطراف الدولية تعمل على إعادة إنتاج ذات المؤسسات لمحاصصة الغنائم والأرباح والمصالح، والتغذي من الأوضاع الراهنة كل بحسب موقعه ونظرته، ومن ثم يمكننا أن نخلص إلى أن الأمم المتحدة بعد قرابة خمس عشرة سنة من المساعي الدبلوماسية لم تتوصل إلاّ لوقف إطلاق النار وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وذلك بكل موضوعية بسبب ضعف إرادة الأطراف الليبية المتناحرة، والتدخل الدولي السلبي لكل من الإمارات، تركيا، روسيا عبر وكلائهم مراعاة لمصالحهم المتضاربة والمتناقضة، وغياب خطة ملزمة لتنفيذ المواعيد الانتخابية المتفق عليها تحت طائلة إنفاذ العقوبات الصارمة، وعدم تزويد الأجسام بأدوات إلزامية وردعية لتنفيذ القرارات والخطط التي تم إقرارها، وبالمحصلة فشلت الأمم المتحدة فشلا ذريعا في استبعاد كل الأجسام الحالية المتورطة في الفساد والإجرام وعجزت عن تأسيس حكومة موحدة وجيش موحد ودستور متفق عليه. فضلا عن الجهود المبذولة من طرف آلية دول الجوار المنشأة سنة 2017 والتي تهدف إلى تأمين استقرار حدود دول الجوار، منع امتداد الفوضى الأمنية، منع تدفق الأسلحة، واللاجئين، والمُشكلة من الجزائر ومصر وتونس والمتمثلة في عقد سلسلة من اللقاءات مع قادة الأجسام المختلفة، والسعي إلى تقريب وجهات النظر، والدعوة إلى التمسك بالحل الليبي الليبي ومنع تدخل الدول الأجنبية، منع انهيار الدولة، التنسيق الأمني، دعم وقف إطلاق النار، حلّ الميليشيات، الضغط لتنظيم انتخابات، دعم الجهود الأممية، إلاّ أن هذه الآلية لم تكن فاعلة بالمستوى المطلوب لفقدها للقوة التنفيذية الأمنية الملزمة، ولتضارب مصالح بعض دول الجوار في دعم أطراف غير متفق عليها، وعدم التزام الأجسام بمخرجات اجتماعات آلية الجوار لغياب قوة الإلزام. وانشغال دول الجوار بالكثير من الاضطرابات والأحداث الداخلية مما جعل المسار الأممي بزخم اجتماعاته ومخرجاته يتفوق على مسار دول الجوار الذي يسعى أعضاؤه إلى بذل نفس جديد لإحياء الآلية خلال الاجتماع المرتقب بالجزائر ثم تونس قبل نهاية 2025 .
‪ ‬‬
الوضع المتأزم في غرب ليبيا

‪ ‬‬
إن الوضع المتأزم في غرب ليبيا سيما بعد تصفية عبد الغني الككلي المدعو غنيوة رئيس جهاز دعم الاستقرار بحجة القضاء على الميليشيات وتوحيد الجيش ينذر بتأزم الوضع سيما وأن هذه التصفية جاءت بنتائج عكسية مما كان متوقعا كزعزعة الاستقرار الأمني، تضاعف التشكيك في تحقيق الإصلاح الأمني، تشجيع حفتر على طرح نفسه كقائد بديل منضبط، تعطيل التوافق السياسي، إضعاف حكومة الوحدة الوطنية، فضلا عن أن بعض الميليشيات القوية مثل قوات الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارة، واللواء 444 بقيادة محمود حمزة، ..الخ، باتت متوجسة من التصفية التدريجية ومواجهة ذات المصير هذا من جهة. ومن جهة أخرى عدم تحقق النصاب القانوني في معظم جلسات مجلس النواب ببنغازي وتورطه في استصدار ميزانية بقيمة 69 مليار دينار دون مراعاة لشروط الشفافية لتمويل مؤسسة الإعمار التابعة لإشراف صدام حفتر. واستمرار النزاع القانوني بين من له الحق في رئاسة المجلس الرئاسي. والغياب التام لمجلس الدولة ببنغازي، مما يوحي بتوافق جميع الفرقاء على التمسك بالكراسي والمناصب والامتيازات خدمة لمئاربهم الشخصية التي تقاطعت مع مصالح مختلف الأطراف الدولية التي تحاول الإبقاء على الوضع الراهن لتقديم إملاءاتها والتحكم في القائمين على الأموال والثروات، حيث صرفت حكومة الوحدة الوطنية من 2021 إلى 2025 حوالي 439.5 مليار دينار، فيما صرفت حكومة أسامة حماد من سنة 2023 إلى 2025 حوالي 500 مليار دينار دون منجزات معتبرة تتعلق بالمنشآت القاعدية وبناء اقتصاد وتحسين معيشة المواطن، ودون تفعيل رقابة ديوان المحاسبة، هيئة الرقابة الإدارية، مجلس النواب، مما تسبب في انهيار الناتج المحلي الإجمالي بفعل الحرب، وتوقف المشاريع، تعطل القطاعات الحيوية، الاعتماد على الاقتصاد الريعي، انقسام المصرف المركزي، ازدواجية الإنفاق، حيث تراوحت نسبة التضخم بين1.5 إلى 2.5 %، نسبة البطالة بين 15.5 إلى 17%، استشراء الفساد المالي، انخفاض قيمة الدينار الليبي بنسبة 13.3 % في أفريل 2025.

الأقاليم الثلاثة:طرابلس، طبرقة، فزان

أمام هذا التوصيف المزري للمعضلة الليبية ثبت بالدليل القاطع أن الحل لا يمكن أن يصدر من هيئات الأمم المتحدة والجهود الدولية لوحدها بل الحل لا بد أن ينبع كذلك من الإرادة الشعبية الصرفة، ويمكننا تقديم بعض الحلول الممكنة: أولا:على المجتمع الليبي أن ينخرط بكل أطيافه في الأزمة ويأخذ زمام المبادرة للتنسيق فيما بين العشائر والقبائل والبلديات والأكاديميين، وهيئات المجتمع المدني في الأقاليم الثلاثة:طرابلس، طبرقة، فزان لبلورة رؤية واضحة لإطلاق حوار وطني شعبي يرمي إلى صياغة ميثاق وطني جامع لتحديد شكل الدولة الليبية وطبيعة نظام الحكم وعلاقة السلط فيما بينها، ومن ثم إجبار الأجسام الموجودة على تبني وقبول هذه الرؤية. ثانيا: تشكيل جبهة شعبية موحدة تمثل الأقاليم الثلاثة تضطلع بتوحيد قوى المجتمع المدني والنقابات والمؤسسات الجامعية. ثالثا: تنظيم حملات وجلسات ومؤتمرات توعوية لرفض الانقسامات والمطالبة بالتغيير الحقيقي. رابعا: استخدام وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي للكشف وفضح الفساد وإنفاذ المحاسبة الشعبية على تبديد الأموال العمومية. خامسا: الحرص على تنظيم انتخابات محلية سيما في المناطق الآمنة، فرض كفاءات مخلصة ونزيهة لإدارة الشأن العام تدريجيا لتغيير كل الإطارات المشبوهة وفرض سياسة الأمر الواقع استعدادا لبلوغ حكومة شرعية وموحدة. سادسا: إشراك الجامعات لبلورة سياسات اقتصادية ناجعة والمشاركة في إعداد الدستور بالتدقيق في اختيار أعضاء اللجنة المكلفة بذلك.سابعا: المواصلة في تنظيم حراك شعبي مستمر مناهض لكل الأجسام المنتهية الشرعية دون استثناء لغرض الوصول إلى مؤسسات منتخبة. ثامنا: ضرورة تكوين لجان من كفاءات علمية تتمتع بالخبرة للسهر على ضمان حسن إدارة المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط. تاسعا: إفشاء ثقافة المصالحة الوطنية ونشر قيم التسامح والتغافل في أوساط المجتمع، ونبذ الانتقام وتفعيل العزل السياسي، وتطبيق العدالة الاجتماعية. ومن الأجدر فرض هذه الرؤى على المبعوثة الأممية حتى الرضوخ والاستجابة للمطالب الشعبية.

تصحير للساحة السياسية

بناء على ما تقدم يمكننا أن نخلص إلى أن الشعب الليبي بالرغم من ما تعرض له من تصحير للساحة السياسية في عهد النظام البائد والعجز في بناء مؤسسات قوية وفاعلة خارج الأطر القبلية والعشائرية، بات لزاما عليه أن يؤمن بقضيته أسوة بغيره من الشعوب المتحررة بأن بناء الدولة ليس بالأمر المستحيل، بل يستوجب على عموم الشعب الانخراط بكل أطيافه في هذه العملية ، لفرض الرؤية المستقبلية لشكل وطبيعة نظام الحكم المراد استحداثه في الدستور، وعلى الأجسام الموجودة الرضوخ لإرادة الشعب، وعرض ذات الرؤية على مبعوثة الأمم المتحدة لتفعيل خطة طريق مدعومة بمدد زمنية مع توفير أدوات التنفيذ وآليات الزجر عند المخالفة، بغية الرقي بالدولة الليبية إلى مستوى الأمن والاستقرار والتحضر والتطور المنشود وفقا لمنتهى نظرية العقد الاجتماعي للفلاسفة الثلاثة الكبار (توماس هوبز، جون لوك، جون جاك روسو) التي تنقل الأفراد بمقتضى الإرادة العامة من الحالة البدائية والتناحر إلى المجتمع السياسي المنظم الذي يرتكز على السيادة الشعبية، الصالح العام والمشاركة في السلطة، والخضوع للقانون، بعيدا عن تشكيل الدولة بحسب نظرية ابن خلدون على أساس العصبية والبداوة والتكاتف الاجتماعي، ومشاركة العائلة والقبيلة في السلطة والمجد، ليعقب ذلك مرحلة التحضر والانفراد بالحكم وحياة الرفاهية، ثم مرحلة بداية النهاية والترف الزائد والانشغال بالملذات والانغماس في الفساد، وإضعاف العصبية ثم سقوط الدولة. يقول عمر المختار (من قاتل لأجل ليبيا لا يخسر، ومن قسمها خسرها)، وكأنما هذا الرجل بمواقفه البطولية ومساعيه لتوحيد ليبيا منذ 94 عاما لا زالت حية ومتوهجة توحي لكل الليبيين في إيحائيتها أن مصطلح القتال لا يقتصر على القتال المسلح فحسب، بل يمتد إلى النضال على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتوعوي، والتصدي لكل من يعبثون بمصلحة ليبيا ويؤجلون انطلاقتها حتى ولو كانوا ليبيين في حدّ ذاتهم لتكون الدولة الليبية بعيدا عن فكر النظم الفيدرالية المنبت عن أصالة الشعب الليبي موحدة وعزيزة وأبية بما حباها الله به من أهمية استراتيجية عالمية، وموقع جغرافي باعتبارها بوابة بين أوروبا وأفريقيا، وقوة إقليمية طاقوية، وطاقة شبابية ملهمة، وجالية من الكفاءات والأدمغة، ومنطقة حرة لاحتضان مجمعات صناعية، مما يؤهلها للعب أدوار ريادية إقليمية وعالمية في فضّ النزاعات والتعامل مع مشكل الهجرة وتأمين المتوسط وضبط التوازنات العالمية.