وترجون من الله ما لا يرجون

أ.حسام الدين حمادي/ في زمن المحن والابتلاءات، تتباين البصائر، وتنكشف الحقائق، ويُمحَّص الناس تمحيصًا؛ فيُثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويزيغ الذين في قلوبهم مرض. وما أشدَّ ما نحتاج اليوم إلى أن نقرأ الأحداث بعين الوحي، لا بعين العاطفة المجردة ولا التحليلات القاصرة. لقد علّمنا القرآن أن الطريق إلى النصر محفوف بالصبر، وأن العاقبة لا …

أغسطس 11, 2025 - 14:31
 0
وترجون من الله ما لا يرجون

أ.حسام الدين حمادي/

في زمن المحن والابتلاءات، تتباين البصائر، وتنكشف الحقائق، ويُمحَّص الناس تمحيصًا؛ فيُثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويزيغ الذين في قلوبهم مرض. وما أشدَّ ما نحتاج اليوم إلى أن نقرأ الأحداث بعين الوحي، لا بعين العاطفة المجردة ولا التحليلات القاصرة.
لقد علّمنا القرآن أن الطريق إلى النصر محفوف بالصبر، وأن العاقبة لا تكون إلا للمتقين، وأنه “مع العسر يُسرًا”، وأن المحن ليست إلا جسورًا إلى المنح. يقول الله تعالى:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214].
هذه سُنّة الله، لا تتبدل ولا تتحول. يوم بدر جاء بعد أعوام من الاستضعاف، والفتح الأعظم جاء بعد صلح الحديبية الذي رآه البعض تنازلًا، وخيبر فُتحت بعد حصار الأحزاب. وهكذا فإن التحولات الكبرى في مسار الأمم تأتي بعد آلام شديدة، وابتلاءات عظيمة، تمهيدًا لمرحلة أرقى وأوسع وأعلى سقفًا.
اليوم، تعيش أمتنا لحظة فاصلة. غزة الجريحة تقف وحدها في وجه أعتى آلة بطش عرفها العصر الحديث، لكنها في الحقيقة ليست وحدها، فربها معها، ووعده معها، وسنن النصر ماضية فيها. ما يحدث هناك ليس هزيمة، بل غربلة وتمحيص، وكشفٌ للزيف، وتعرية لحضارة ادعت الإنسانية والحرية وهي تغرق في دماء الأبرياء.
الحضارة الغربية المادية الشهوانية بلغت نهاية صلاحيتها الأخلاقية. لم تعد تملك مبررًا لوجودها سوى القوة العمياء، والنهب المنظم، والتلاعب بالقيم والمعايير. لقد غرقت في سوء صنيعها، حتى لم تعد تخفي قبحها، وجاءت غزة لتفضحها أمام العالم، وتكشف للعالمين أن القوة بلا قيم ضعف، وأن الحضارة بلا أخلاق سقوط.
وهنا يتجلى الفارق بيننا وبينهم: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]. نحن نرجو وجه الله ورضوانه، وننتظر وعده الحق، وهم لا يرجون إلا متاعًا زائلًا، ولا يرون إلا أفق الدنيا المحدود.
المؤمن يدرك أن الله سبحانه يحضر الأمة لواقع جديد، يطيح بموازين الهيمنة، ويعيد ترتيب المشهد العالمي على نحو يجعل الصولة فيه لدين الله. ولذلك قال تعالى:
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} [آل عمران: 140].
لقد آن لنا أن نتجاوز ردود الفعل العاطفية العابرة، وأن نبني على وعي سنني راسخ، يربط الحاضر بالمستقبل، ويرى في الألم ميلادًا لأمل أكبر. ما يجري في غزة هو مدرسة إيمانية كبرى، تعلّمنا أن النصر لا يُستعجل، وأن الخير فيما اختاره الله، وأن الغيب كله بيده سبحانه.
فلنصبر صبر الواثقين، ولنستبشر استبشار المؤمنين، ولنوقن أن المستقبل لهذا الدين، وأن وعد الله لا يخلف، وأن فجر النصر يوشك أن يطلع، ولو كره المجرمون.