الدخول المدرسي وفلسفة القراءة… من العلق إلى العلاقات

كل دخول مدرسي يعيد إلى الذاكرة لحظة التأسيس الأولى لفعل القراءة، وكأننا نلج من جديد أفقا يذكّرنا أن المعرفة ليست مجرد تمرين عقلي، وإنما هي شرط حضاري وضرورة وجودية. إن العودة إلى الكتب في بداية الموسم الدراسي، وجمعها وفتحها وملامسة عوالمها، ليست طقسا شكليا عابرا، وإنما فعل يعيدنا إلى السؤال القرآني المؤسس: “اقرأ باسم ربك […] The post الدخول المدرسي وفلسفة القراءة… من العلق إلى العلاقات appeared first on الشروق أونلاين.

سبتمبر 14, 2025 - 16:49
 0
الدخول المدرسي وفلسفة القراءة… من العلق إلى العلاقات

كل دخول مدرسي يعيد إلى الذاكرة لحظة التأسيس الأولى لفعل القراءة، وكأننا نلج من جديد أفقا يذكّرنا أن المعرفة ليست مجرد تمرين عقلي، وإنما هي شرط حضاري وضرورة وجودية. إن العودة إلى الكتب في بداية الموسم الدراسي، وجمعها وفتحها وملامسة عوالمها، ليست طقسا شكليا عابرا، وإنما فعل يعيدنا إلى السؤال القرآني المؤسس: “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق”.
ولعلّ ما يمنح هذه الآية مكانتها الفريدة أنها لم تربط القراءة بالمعرفة في معناها المجرد فقط، وإنما بالخلق ذاته، وبالعلق الذي يمكن أن نفهمه على أنه شبكة العلاقات التي يقيمها الإنسان في وجوده، هنا يتقاطع النص القرآني مع ما يقوله علم الاجتماع والأنثروبولوجيا عن كون الإنسان كائنا علائقيا بالأساس، كما يوضح (بيير بورديو) في حديثه عن الرأسمال الاجتماعي بأن الفرد لا يُعرف إلا بما ينسجه من علاقات وارتباطات تُشكل شرط إمكان فعله داخل المجتمع.
وحين نتأمل فعل القراءة من هذه الزاوية، ندرك أنه ليس اكتسابا للمعرفة فحسب، وإنما بناء لعلاقات متينة وصحيحة: علاقة بالذات، وعلاقة بالله، وعلاقة بالآخر، وعلاقة بالكون، القراءة بهذا المعنى تغذّي الحس الأخلاقي كما تنمّي البصيرة النقدية، وقد عبّر بول ريكور عن هذه الفكرة في أحد كتبه بقوله: إن القراءة تعيد صياغة علاقتنا بأنفسنا من خلال علاقتنا بالنص، وبذلك فهي تمرين في العيش المشترك.
فالإنسان الذي يقرأ لا يستطيع أن ينعزل عن هذه العلاقات، إذ إن النصوص تفتح أمامه إمكانيات للتفكير في العدالة، وفي حماية البيئة، وفي التعايش، وفي مقاومة العنف..وهنا تصبح القراءة مسؤولية جماعية، وليست مجرد شغف فردي، ومن هذه الزاوية يظهر الدخول المدرسي ليس كموعد إداري في حياة المؤسسات التربوية، وإنما كرمز لعودة متكررة إلى فعل التأسيس، إلى البداية الجديدة للمعرفة. وقد لمح (ميشال فوكو) إلى هذا البعد حين اعتبر في أركيولوجيا المعرفة أن كل بداية معرفية هي في العمق إعادة ترتيب لشبكة العلاقات التي من خلالها نفهم ذواتنا والعالم.
إن الربط القرآني بين “القراءة والعلق” يكشف عن فلسفة عميقة: الإنسان لا يعيش في عزلة، وإنما هو دائما مشدود إلى نسيج من الروابط، والعلاقات التي تُبنى على العدل والاحترام والوفاء بالحقوق هي ما يجعل الحياة ممكنة. أما حين تختلّ هذه العلاقات، يتحول الوجود إلى صراع مرير، ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا اعتُبرت القراءة فعلا تأسيسيا للإنسانية: لأنها تذكّرنا دائما بشبكة العلائق التي تضمن استمرار الحياة على نحو أفضل، ولماذا كانت “اقرأ” أول ما أنزل من القرآن الكريم.
وهذا ما يجعلنا ندرك أن ما نحتاج إليه في كل دخول مدرسي ليس استئناف الدروس والامتحانات فقط، وإنما بناء وعي جماعي بأن القراءة مشروع أخلاقي وحضاري في آن واحد، فالقراءة شرط للتحرر، والتحرر شرط لبناء مجتمعات عادلة تقوم على احترام العلاقات الإنسانية والبيئية.
إن الدخول المدرسي إذن ليس لحظة تقنية في حياة المؤسسات التعليمية، وإنما مناسبة للتذكير بأن القراءة ليست عادة موسمية، وإنما مسار حياة كامل، والإنسان الذي يفتح كتابا في بداية سنة جديدة، إنما يفتح نافذة على الكون، ويعيد بناء جسور مع ذاته ومع ربه ومع العالم من حوله، القراءة في جوهرها ليست تراكما لمعارف صماء، بل انبثاق حياة، وفتح مسار، وإشعال نور..ومن هنا نفهم أن الإنسان يقرأ كي يكون أكثر إنسانية، ولكي يمد جذوره في تربة العلق التي خُلق منها، حتى يورق وجوده وتثمر حياته في خلافة راشدة على هذه الأرض، وكما كتب طه حسين ذات يوم: “إنما القراءة مفتاح الحياة، ومن ضيّع مفتاحه بقي خارج أبوابها ”.

شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين

The post الدخول المدرسي وفلسفة القراءة… من العلق إلى العلاقات appeared first on الشروق أونلاين.