الصين من الثورة الثقافية الى العلمية
عبد الأمير المجر لقد أيقن الصينيون أن المشاريع الطوباوية هي مقتل أي ثورة وأي مشروع، ومن ثم مقتل أي دولة تتبناه، كونه يجعلها تدور حول نفسها، وأن المشاريع الواقعية التي من الممكن تحقيقها هي التي تفضي لاحقا إلى تحقيق مشاريع أكبر، وهكذا وجدت الصين نفسها بعد أن بدأت رحلتها مع البناء والاهتمام بالعلم… في العام …

عبد الأمير المجر
لقد أيقن الصينيون أن المشاريع الطوباوية هي مقتل أي ثورة وأي مشروع، ومن ثم مقتل أي دولة تتبناه، كونه يجعلها تدور حول نفسها، وأن المشاريع الواقعية التي من الممكن تحقيقها هي التي تفضي لاحقا إلى تحقيق مشاريع أكبر، وهكذا وجدت الصين نفسها بعد أن بدأت رحلتها مع البناء والاهتمام بالعلم…
في العام 1911 تمكن الفيلسوف والثائر الصيني الشهير (صن يات صن) من الإطاحة بأسرة (تشينج) الملكية التي حكمت الصين منذ العام 1644، وأعلن قيام الجمهورية، ومن ثم أرسى حكما يحاكي النظم الليبرالية في العالم الحديث وقتذاك، وحظي بدعمه أيضا.
وفي العام 1919 تأسس الحزب الشيوعي الصيني (حزب الشعب) على خلفية مؤتمر (الأممية الثالثة) الذي عقد في موسكو بذلك العام، وبات جزءا من (الشيوعية الدولية).
بعد وفاة الزعيم (صن يات صن) في العام 1925، خلفه الزعيم (شيانج كاي شيك) الذي سيواجه الشيوعيين المدعومين من الاتحاد السوفييتي، بعد أن تحالفا مؤقتا لتحرير مقاطعة (منشوريا) الصينية المحتلة من قبل اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية.
حصلت المواجهة العنيفة والمصيرية بينهما بعد انتهاء الحرب، وانتهت بانتصار الشيوعيين في العام 1949 بقيادة (ماو تسي تونغ) الذي سيسعى ليصبح الحاكم المطلق بعد أن باتت الفرصة مهيأة أمامه، نتيجة للواقع السياسي الجديد، حيث الحزب الواحد والمناخ (الثوري) الذي طبع عالم تلك المرحلة التي وصل فيها اليسار الراديكالي إلى السلطة في دول عديدة من العالم.
في العام 1966 حصلت حادثة كان من الممكن أن تكون عابرة، لكنها تحولت إلى بداية لواقع جديد في الصين وفي حياة الثورة الصينية (الشيوعية) نفسها، إذ بسبب التقاليد الليبرالية التي أرساها (صن يات صن) في البلاد، رفض أكثر من رئيس تحرير صحيفة هناك نشر مقال لـ (ماو تسي تونغ) يرد فيه على مسرحيتين كتبتا قبل هذا الموعد، وتتحدثان عن قاض شجاع في القرن السادس عشر يهاجم الإمبراطور الصيني لظلمه، ففهم ماو أن المسرحيتين تستهدفانه، وقام بالرد، لكن لم يجد من يستقبل رده في الصحف، فنشره في صحيفة مغمورة، إلا أن رده على واقع البلاد (الثقافي) هذا سيكون مزلزلا!
لقد قرأت من قبل عن كيفية بداية (الثورة الثقافية) وعرفت حينذاك، أن طالبات في جامعة بكين شكون عند الزعيم (ماو تسي تونغ) وجود برجوازيين ومعادين للثورة في مفاصل الدولة ويعملون بالضد منها! فاستجاب ماو لطلبهن وبدأت حملة التطهير الكبرى التي راح ضحيتها مئات الألوف على يد (الحرس الأحمر) الذي تشكل وقتذاك، لتشهد ساحات الصين فظائع مروعة باسم القضاء على أعداء الثورة.
لكن الحقيقة التي عرفتها لاحقا، أن الأمر كان قد خُطط له مسبقا، وهو ما تأكد لي حصوله. بعد وفاة (ماو تسي تونغ) في العام 1976، بدأت الصين رحلة جديدة، وضعت فيها الراديكالية الماوية وراءها، وانطلقت لتبني نفسها بالعلم والمعرفة التي تحصّلت بالانفتاح على العالم، وإنهاء العزلة التي فرضتها عليها رؤية ماو غير الواقعية، المتمثلة بتبني نهج (الكفاح المسلح) لإقامة الشيوعية في كل العالم، ودعمه الكثير من القوى الراديكالية، بما فيها الجناح المنشق من الحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزية)، أو أن هذا الجناح تأثر برؤية ماو وتبناها!
لقد أيقن الصينيون أن المشاريع الطوباوية هي مقتل أي ثورة وأي مشروع، ومن ثم مقتل أي دولة تتبناه، كونه يجعلها تدور حول نفسها، وأن المشاريع الواقعية التي من الممكن تحقيقها هي التي تفضي لاحقا إلى تحقيق مشاريع أكبر، وهكذا وجدت الصين نفسها بعد أن بدأت رحلتها مع البناء والاهتمام بالعلم، وبذلك حققت ما لا يمكن تحقيق بعضه بالأساليب الثورية القديمة، وأن فضاء الحرية، وإن كانت نسبية، في أي بلد، يفتح الآفاق أمام أبنائه ليبدعوا ويبتكروا ويصنعوا الحياة.
واليوم باتت الصين البلد الثاني بعد أميركا اقتصاديا، ومرشحة لأن تكون الأولى في العقود القريبة القادمة.. وتبقى الحياة دروسا وعِبرا لمن يقرأ ويعتبر!