الفن التشكيلي في خدمة الثورة الجزائرية: فارس بوخاتم نموذجا
د. بوخاتم رحيمة/ لم تكن الثورة الجزائرية مجرد صراع مسلح ضد الاستعمار الفرنسي، بل كانت مشروعا تحرريا شاملا حمل أبعادا سياسية، اجتماعية، ثقافية وفكرية. وفي هذا الإطار برز الفن التشكيلي كأحد أشكال المقاومة، إذ تحول من ممارسة جمالية إلى وسيلة للتعبير عن المأساة والكرامة في آن واحد وعن النضال الجمعي للشعب الجزائري. أدرك الفنانون أن …

د. بوخاتم رحيمة/
لم تكن الثورة الجزائرية مجرد صراع مسلح ضد الاستعمار الفرنسي، بل كانت مشروعا تحرريا شاملا حمل أبعادا سياسية، اجتماعية، ثقافية وفكرية. وفي هذا الإطار برز الفن التشكيلي كأحد أشكال المقاومة، إذ تحول من ممارسة جمالية إلى وسيلة للتعبير عن المأساة والكرامة في آن واحد وعن النضال الجمعي للشعب الجزائري. أدرك الفنانون أن ريشاتهم يمكن أن تكون سلاحا موازيا للبندقية، وأن اللوحة قادرة على إيصال صوت الشعب إلى العالم. من خلال لوحاتهم نقل الفنانون صور المجازر، والتهجير، والتعذيب، والحياة في الجبال والمحتشدات، من خلال لوحاتهم، استطاع الرسامون أن يحولوا الألم اليومي للمواطن إلى مشاهد فنية خالدة تعبر عن القهر، التهجير، النضال، والأمل. كما لعبت المعارض الفنية دورا بارزا في كشف جرائم الاستعمار للعالم خاصة تلك التي نُظمت في بلدان داعمة للثورة الجزائرية وهذا ما جعل أعمالهم بمثابة شهادات بصرية حية توثق الذاكرة الجماعية للثورة.
لقد ساهمت هذه الأعمال الفنية في بناء خطاب بصري ثوري عزز الروح الوطنية وفضح وحشية الاستعمار وربط بين الداخل والخارج، وجعل من الفن التشكيلي شريكًا فاعلًا في معركة التحرير.
ضمن هذا السياق برز الفنان فارس بوخاتم كأحد الوجوه التي سخرت الريشة لخدمة القضية الوطنية، فجسّد بريشته مشاهد المعاناة والمقاومة، وساهم في بناء الذاكرة البصرية للثورة. تهدف هذه المداخلة إلى دراسة دور الفن التشكيلي في الثورة الجزائرية، مع التركيز على تجربة فارس بوخاتم كنموذج للفنان المجاهد في الميدان وفي المعارض. ويمثل الفنان فارس بوخاتم نموذجا لهذا التوجه، حيث سخر فنه لخدمة الثورة، وأنتج أعمالا تجسد الوجع الوطني والكرامة الشعبية مما يجعله من الوجوه الفنية البارزة في مسار المقاومة الثقافية الجزائرية.
لمحة عن مولد ونشأة ونضال فارس بوخاتم قبل الاستقلال
فنان الشعب، فنان الثورة، فنان الجبال، رسام الثورة التحريرية كلها تسميات لنفس الشخص وهو فارس بوخاتم فنان تشكيلي جزائري بارز ولد عام 1941 في البلدية المختلطة «مرسط» بتبسة، 1توفي والده بعد 6 أشهر من ولادته، عاش عمره كله يتيما، انضم إلى صفوف جيش التحرير الوطني سنة 1957 وعمره لا يتجاوز ال16 سنة، وكان تحت قيادة سعد قسطل بعين الزرقاء التابعة للمنطقة الخامسة من الولاية الأولى حيث بدأ مسيرته الفنية في الميدان من خلال رسم مشاهد المعارك وتوثيق معاناة المجاهدين واللاجئين، خاصة تلك المرتبطة بخط موريس المكهرب وجبال عين الزرقاء وتبسة التي كان ينشط فيها . تعد أعماله تعبيرا صادقا عن التجربة الثورية الجزائرية 2
كان بوخاتم ينشط داخل الحدود، ثم اُعتقل وقضى عدة سنوات في سجون المستعمر، وقد أصيب بوخاتم أثناء قطع خط موريس حيث وثق ذلك بلوحة (مذابح خط موريس) الموجودة حاليا في المتحف المركزي للجيش الجزائري، حيث وثق من خلال لوحاته معاناة المجاهدين والمدنيين، خصوصا في مناطق خطي موريس وشال المكهربين.
ونقل على إثر إصابته إلى مستشفى الصادقية في تونس، وهناك التقى بالدكتور فرانز فانون الذي شجعه على مواصلة الرسم، كعلاج نفسي وتخفيفا لرضوض وآلام الحرب. واستعاد هذا الفنان أنفاسه بصعوبة، بفضل العناية المركزة التي قدمها له فانون.3 وبعد خروج بوخاتم من المستشفى، انضم إلى الفرع الفني الذي أنشئ داخل (مصلحة الدعاية لجيش التحرير الوطني)، وتم اختياره فيما بعد ليكون أول رسام في مصلحة الإعلام التابعة لجيش التحرير (المكلفة بالدعاية). 4
في هذه الفترة أنجز أولى الرسوم التوثيقية للشهداء الرمزيين وللمعارك الكبيرة، وقد استخدمت لتزيين مقر قيادة الأركان. هذه الأعمال شكلت أولى خطوات مدرسة الفن الملتزم بالقضية الوطنية والثورة الجزائرية.5
كما كلف أيضا بتزيين المنشورات الخاصة بالجيش، إضافة إلى قيامه بتنفيذ رسوم توضيحيّة (موتيفات) للقصائد التي يكتبها المقاتلون.
لا تزال رسومات بوخاتم محفوظة على الصخور وفي كهوف جبل سيدي أحمد وجبال الصفصاف وبوربعية بعين الزرقاء بتبسة التابعة للمنطقة الخامسة من الولاية الأولى، وفي العام 1961 استقر الفنان فارس بوخاتم في قرية (الكاف).
فارس بوخاتم بعد الاستقلال
نظم بوخاتم أول معرض فردي له عام 1965 في قاعة الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية (UNAP)، كما شغل منصب الأمين العام للاتحاد بين 1973 و1982، حيث ساهم في دعم الفنانين الشباب وتنظيم معارض داخل الجزائر وخارجها. وقد شارك في أسابيع ثقافية دولية، ونال الجائزة الكبرى الدولية للرسم في اليابان. تعرض أعماله اليوم في المتحف الوطني للفنون الجميلة، وتعد مرجعا بصريا مهما في تاريخ الفن الجزائري الحديث. 6
كما تم تقديم أحد أعماله في معرض تابع للأمم المتحدة بنيويورك. كانت لوحة ضخمة تصور معاناة شعوب العالم الثالث، وقورنت تلك المعاناة بتجربة البلدان الاشتراكية، وقد أحدثت تلك اللوحة أثرا عظيما.
في الجزائر المستقلة، واصل فارس بوخاتم تسليط الضوء على المجتمع الجزائري. رسم وجوه العدالة، والألم، والخير، ولم يتوقف عن إبراز معاناة البسطاء.
رسم جداريات ضخمة حول «معركة جبل الدشرة» وأخرى عن تاريخ 1979 لأكاديمية شرشال العسكرية. 7
الدراسات
•أكاديمية الفنون الجميلة: براغ، تشيكوسلوفاكيا 1966 – 1969
• أكاديمية الفنون: جمهورية الصين الشعبية – بكين
الجوائز:
• الجائزة الأولى في الرسم (الجائزة الكبرى لمدينة الجزائر، 1970)
• الجائزة الكبرى الدولية لطوكيو (1975)
• الجائزة الكبرى (الفنون والآداب)، سلمها له الرئيس بومدين
• ميدالية ذهبية في الرسم – الكويت
• الجائزة الأولى في مسابقة «لوحة الأمير عبد القادر»
المعارض الدولية التي عرضت أعماله
شارك فارس بوخاتم في معارض عديدة عبر 5قارات منذ أول عرض له سنة 1965، في مجموعات رئاسية وملكية وخاصة، ومتاحف في: الجزائر، اليابان، سيدني، عمّان، بغداد، الأردن، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي، الأرجنتين، فنزويلا، إيران، ليما، ألمانيا، فرنسا، إسبانيا، مصر، سنغافورة، هونغ كونغ، ماليزيا، لاجوس، الصين، إندونيسيا، بوغوتا، ريو، روما، مانيلا، هاواي، كولومبو، نيودلهي، كلكتا، مدراس، بومباي، لبنان، غينيا، غانا، تايلاند، بورما، تونس، كمبوديا، بولندا، كوريا الجنوبية، العراق، نيجيريا، باكستان، البرتغال، المكسيك، كوبا، هايتي، هولندا، بلجيكا، موناكو، الدنمارك، السنغال، نيبال، بلغاريا، ساحل العاج، تركيا، البرازيل، كندا… إلخ.
المناصب والمسؤوليات بعد الإسقلال
• الأمين العام للتنسيقية (الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية) 1973 – 1984
• الأمين العام للرابطة المغاربية للفنون التشكيلية 1976 – 1980
• عضو شرف في جمعيات صينية وكوبية وتشيكية وعربية…
• تفرغ كليا للفن سنة 1984 .
• أعيد تكريمه رسميا في متحف الفنون الجميلة بالجزائر (فيفري 1990) برعاية رئيس المجلس الشعبي الوطني (رابح بيطاط) .
• أنجز عنه فيلم وثائقي في التلفزيون الجزائري سنة 1987 بمناسبة 5 جويلية8
مميزات أعماله
تميز فارس بوخاتم بأسلوب فني خاص يمزج بين الواقعية والتعبيرية، مستوحى من معايشته الفعلية لأحداث الثورة. لم تكن لوحاته مجرد تجسيد بصري للمعارك أو لحظات النصر، بل كانت توثيقا حيّا لمشاعر الألم، والتضحية، والصمود التي عاشها الشعب الجزائري.
وتميزت غالبية أعمال بوخاتم بالنضارة والشجن والحدس والشاعريّة. كما تميزت لوحاته بالتعبير عن الألم، والمقاومة، والتشبث بالحياة رغم القهر.9
وقد ساهم أيضا في إثراء الثقافة البصرية الوطنية من خلال مشاركته في إعداد ديكورات المسرح الوطني، والتعاون مع مخرجين جزائريين لتجسيد رؤى فنية ملتزمة في المسرح والسينما.
فارس بوخاتم لم ينقطع عن الإنتاج الفني رغم التحديات الصحية والقضائية، واستمر في الرسم حتى في سنواته الأخيرة، مما يعكس التزامه العميق برسالة الفن والثقافة الوطنية. لقد جسد في مسيرته التقاء الفن بالثورة، وهو يُعد بحق من أبرز رموز الفن الملتزم في الجزائر.
قراءة في بعض لوحاته وعلاقتها بالثورة
ولد فارس بوخاتم ونشأ في تبسة وهي بيئة وطنية مشبعة بروح الثورة، ما جعله يربط تجربته الفنية بالمسار النضالي منذ بداياته وسأعرض بعض لوحاته.10
1 – لوحته «ظل الجبل» تصوّر المجاهد في حضن الطبيعة الصامتة رمز الصبر والصمود، حيث تشكل الألوان القاتمة والضوء الخافت خلف الجبل دلالة على الأمل المتسلل من رحم المعاناة.
2 – لوحة «الأم تنتظر» تجسد امرأة جزائرية تلبس الحايك تحدّق في الأفق، وفي الخلفية علم وطني يرفرف. ملامحها تجمع بين الفخر والقلق، في توازن دقيق يعكس دور المرأة كرمز للثورة.
3 – لوحة «الصرخة» تبرز الوجه المفجوع الذي يتردد صداه في فضاء فارغ، كأنه اختزال لصوت الشعب الممتد عبر الزمن. 11
خاتمة
لقد كانت الثورة الجزائرية ثورة شاملة شارك فيها السلاح إلى جانب الكلمة والفن إلى جانب الفعل. وقد شكل الفن التشكيلي أحد أعمدة هذه المقاومة، إذ أنتج خطابا بصريا عميقا ساهم في تعبئة الداخل وكسب تضامن الخارج. شكلت أعمال فارس بوخاتم وآخرين رصيدا فنيا ووثائقيا حيا، يعد مصدرا مهما للباحثين والمؤرخين. من هنا تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة هذه التجارب، لا كأعمال فنية فقط بل كوثائق بصرية تكمل الرواية التاريخية المكتوبة، وتساهم في حفظ الذاكرة الوطنية للأجيال القادمة. وقد ساهم هؤلاء الفنانون بشكل مباشر أو غير مباشر في الثورة التحريرية من خلال تحويل الريشة إلى سلاح مقاومة. تفاوتت طرق مساهمتهم بين الرسم الحي في الجبال والدعاية السياسية والمقاومة الثقافية وهو ما يؤكد أن الفن لم يكن ترفا خلال الثورة، بل كان أحد أسلحتها الناعمة.
الهوامش:
1 مصباح، نادية. الفن في زمن الثورة: شهادات من الداخل. الجزائر: دار الوعي، 2021.
2 ابراهيم مردوخ، مسيرة الفن التشكيلي في الجزائر، ط1، الصندوق الوطني لترقية الفن والأداب وتطويرها، 2005، ص 245.
3 الفكر الثوري في الفن التشكيلي الجزائري، عبد الصدوق ابراهيم، جامعة أبي بكر بلقايد، مجلة جماليات، عدد3، 2016. ص15
4 الحركة التشكيلية المعاصرة بالجزائر، ابراهيم مردوخ، مرجع سابق ص 30
5 عبد الجليل زهير، فارس بوخاتم المزاجات الاندفاعية في الفن، صحيفة البيان، 8ماي 2015.
6 فارس بوخاتم، فن المتمرد منشورات متحف الفنون الجميل، الجزائر 2018.
7 ليلى دراجي، الفكر الثوري في الفن التشكيلي الجزائري، مجلة الابداع والفكر التربوي، العدد5، 2018.
8 معلومات من صور مقدمة من طرف ابن فارس بوخاتم السيد عبد النور بتاريخ 2ماي 2025، أرشيف خاص بالعائلة.
9 Zoubir, Yahia. Decolonizing Algeria: Resistance and Culture. Paris: ?ditions Horizons, 2009
10 لوحاته الثورية: سليم، أمينة. «الفن التشكيلي الجزائري في زمن الثورة.» مجلة الدراسات المغاربية، العدد 12، 2019، ص. 45-60.
11 معلومات من صور مقدمة من طرف ابن فارس بوخاتم السيد عبد النور بتاريخ 2ماي 2025، أرشيف خاص بالعائلة.
الملاحق:
ملاحظة كل الصور متحصل عليها من طرف ابن فارس بوخاتم السيد عبد النور بتاريخ 2ماي 2025، أرشيف خاص بالعائلة.
صورة حديثة للفنان فارس بوخاتم بمنزله
في هذه الصورة النادرة، نرى الفنان فارس بوخاتم في لحظة تأمل وإبداع خلال سنوات الثورة التحريرية، جالسا على فراش بسيط بين ما يبدو أنه ركام أو مخلفات الحرب، ممسكا بريشته وأوراقه، يوثق بريشه ما لا تستطيع الكلمات قوله.
إنها صورة تعبر عن قوة الإرادة والإيمان بأن الفن ليس ترفا، بل مقاومة وسط أجواء الحرب والقصف والدمار، اختار بوخاتم أن يقاوم بطريقته أن يخلد اللحظة، أن يرسم ملامح الألم والأمل في آن واحد.
هي شهادة حيّة على دور الفنان الثوري الذي لا يحمل البندقية فقط، بل يحمل فرشاة تصبح سلاحا يقاوم به النسيان، يخلد بها الذاكرة الجماعية، ويزرع من خلالها بذور الجمال في تربة الوطن الجريح.
مقال في جريدة حول ما قاله الطبيب فرانز فانون وزوجته حول الفنان فارس بوخاتم
صورة للفنان والمجاهد فارس بوخاتم يرسم وسط مجموعة من المجاهدين.
صورة لفارس بوخاتم باللباس العسكري أثناء الثورة ورفيق السلاح .
النص في الصورة يحتوي على «تقديرات حول الإبداع الفني للرسام فارس بوخاتم»، وهي شهادات من شخصيات سياسية معروفة منهم:
• ليوبولد سيدار سنغور، رئيس جمهورية السنغال (ديسمبر 1973): «أؤكد ما قلته سابقاً: لقد رأيت بالفعل لوحاته، إنها معبرة ومتميزة بعمق بطابعها الإفريقي.» /• نورودومسيهانوك، ملك كمبوديا، 1973: «ف. فارس هو بحق مغني المقاومة الخميرية.» /• مدام سوهارتو، زوجة الرئيس أحمد سوهارتو، رئيس جمهورية إندونيسيا (جاكرتا، 1976): «إنه لأمر رائع، وأنا معجبة بلوحاته السوداء.» /• مدام أليندي، زوجة الرئيس أليندي رئيس تشيلي: «سعدت برؤية أعمالكم حول الليالي السوداء، المعروضة في سانتياغو. هذه الأعمال تعبر بصدق عن الثورة الجزائرية.» /• فام فان دونغ، الوزير الأول للجمهورية الاشتراكية لفيتنام (هانوي، نوفمبر 1973): «فارس، في هانوي، عبّر عن التاريخ من خلال بعض من أعماله: الليالي السوداء، التي تمثل ملحمة الشعب الجزائري وتحيي الثورة.»
صورة لوحة فنية لمنظر مجاهدين في جبال تبسة