اتفاقية سيداو وخطر تفكيك الأسرة الجزائرية – من ميثاق غليظ إلى عقد هشّ –
عبد الفتاح داودي */ الأسرة الجزائرية ليست بناءً اجتماعيا عابرا، بل هي ميثاق غليظ كما وصفه الله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]، هي حصن القيم ومصنع الرجال والنساء، ووعاء الهُوية الحضارية الذي حافظ للأمّة على استمراريتها رغم العواصف. لكن هذا الصرح يتعرض اليوم لمحاولة اختراق خطيرة عبر اتفاقية سيداو، التي لا تُقدَّم كمجرد …

عبد الفتاح داودي */
الأسرة الجزائرية ليست بناءً اجتماعيا عابرا، بل هي ميثاق غليظ كما وصفه الله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]، هي حصن القيم ومصنع الرجال والنساء، ووعاء الهُوية الحضارية الذي حافظ للأمّة على استمراريتها رغم العواصف. لكن هذا الصرح يتعرض اليوم لمحاولة اختراق خطيرة عبر اتفاقية سيداو، التي لا تُقدَّم كمجرد نص قانوني، بل كمنظومة قيمية وفلسفية تريد إعادة صياغة العلاقات الأُسرية وفق رؤية غربية مغايرة للمرجعية الإسلامية. إنّ تطبيق هذه الاتفاقية بحذافيرها، من غير مراعاة للثوابت الشرعية والخصوصية الثقافية، ليس مجرد إصلاح قانوني، بل هو زلزال حضاري يهدّد بتقويض أسس المجتمع الجزائري.
فأول ما يُصاب بالتصدع هو عقد الزواج، الذي سماه الله ميثاقا غليظا، فإذا أُفرغ من ولايته الشرعية، وغدا عقدا مدنيا هشّا قابلا للتفكيك في أي لحظة، فقد معناه الروحي والاجتماعي. ومن هنا نفهم قول النبي ﷺ: «أيما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» (رواه أبو داود والترمذي)، لأنه أراد للأسرة أن تقوم على الرعاية والحماية لا على الفردانية المنفلتة. وإذا فُرضت المساواة المطلقة في الميراث والطلاق والتعدد، فإن ذلك ليس عدلا بل ظلم مبطّن، لأن العدل لا يعني المساواة الحسابية بل مراعاة الفوارق الطبيعية والوظيفية، وقد قال الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، وهو توزيع إلهي قائم على التكامل في المسؤوليات لا على التحيز الجندري. إن إلغاء هذه الأحكام سيقود حتما إلى ارتفاع نسب الطلاق والعزوف عن الزواج، وتحوّل الأسرة من نواة المجتمع إلى عقد مدني عابر، لا يلبث أن ينهار عند أول خلاف.
أما الأثر الاجتماعي فيتجلّى في تغيير طبيعة الأدوار، إذ تتحوّل العلاقة بين الرجل والمرأة من تكاملٍ إلى صراع، ومن مودة ورحمة إلى تنافس ومزاحمة. بينما القرآن الكريم يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]. هذا الانقلاب في الفلسفة سيزرع الفردانية ويضعف روح التضامن، فيغدو المجتمع مجموعة أفراد يلهثون وراء مصالحهم الخاصة. وحين يُنتزع من الأُم معنى الرسالة المقدسة التي كرمها الشرع، حتى جعل النبي ﷺ الجنة تحت أقدامها، فإنّ مكانة الأمومة ستتراجع إلى مجرد خيار اجتماعي ثانوي، وما يتبع ذلك من أزمة أخلاقية وديموغرافية خطيرة.
وتزداد الأزمة خطورة على المستوى التشريعي والسياسي، إذ ستقع الجزائر في فخ الازدواجية بين قوانينها المستمدة من الشريعة وبين التزاماتها الدولية. هذا التناقض سيؤدي إلى ضغوط دبلوماسية متكررة لإلغاء تحفظاتها كما فعلت مع المادة 15 من اتفاقية سيداو المُدمرة لقيم الأسرة وأخلاق المجتمع، ويفتح الباب لفقدان السيادة التشريعية، بينما الأُمّة المسلمة مأمورة بالتحاكم إلى شرع ربها: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]. أي معنى لسيادة أُمّة لا تتحاكم إلى كتاب ربها وسنة نبيها؟ وأي مصير ينتظر مجتمعا يشرّع له الآخرون ما يناقض عقيدته وقيمه؟
حتى الاقتصاد لن يكون في مأمن، لأن الأسرة في الجزائر ليست فقط خلية اجتماعية، بل هي خلية اقتصادية أيضا، تقوم على التكافل ودعم الأفراد بعضهم بعضا. فإذا تمّ تفكيكها، تضاعفت أعباء الدولة في مجالات الرعاية والحماية الاجتماعية. والأسوأ من ذلك أن تُوجه السياسات العمومية إلى تطبيق أجندات «التمكين الشكلي» بدل الاستثمار الحقيقي في التعليم النوعي وريادة الأعمال ودعم الأسر المنتجة. وهذا انحراف عن التنمية الأصيلة إلى استنساخ نماذج غربية لم تنجح حتى في بيئاتها.
وفي العمق الحضاري، يظهر الخطر الأكبر: تصادم المرجعيات. فبينما الإسلام يرى الأسرة آية من آيات الله، تقوم على السكن والمودة والرحمة، تنظر الفلسفة الليبرالية التي تقف خلف سيداو إلى الأسرة كإطار مدني متغير، يمكن الاستغناء عنه لصالح الفردانية المطلقة. وهنا نستحضر ما قاله مالك بن نبي: «المجتمع لا يقوم إلا على شبكة من العلاقات الحية، فإذا تفسخت الأسرة، تفككت الأمة، وأصبحت كتلة بشرية بلا معنى». إنّ استيراد قيم لا تنسجم مع تاريخنا وديننا ليس تحديثا، بل مسخ حضاري يفضي إلى فقدان الذات والهُوية.
إن الجزائر اليوم أمام خيار مصيري: إما أن تتمسك بخصوصيتها فتتفاعل مع العالم بما يخدم المرأة ويحفظ الأسرة ويحقق العدل، أو أن تنخرط في مسار مفروض ينتهي بها إلى الانسلاخ من جذورها الحضارية. وتبقى كلمة الله هي الفصل: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].
* جامعة المسيلة