التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في الجزائر
بقلم: آلاء أسيل بوالأنوار يشهد العالم تسارعًا غير مسبوق في تبني تقنيات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، ما أحدث ثورة حقيقية في طرق الإنتاج، التعليم، وتسيير الشأن العام. وفي الجزائر، بدأت ملامح هذه التحولات تتجسد تدريجيًا، لا سيما في قطاعي الاقتصاد والتعليم العالي، رغم التحديات البنيوية التي تعترض …

بقلم: آلاء أسيل بوالأنوار
يشهد العالم تسارعًا غير مسبوق في تبني تقنيات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، ما أحدث ثورة حقيقية في طرق الإنتاج، التعليم، وتسيير الشأن العام. وفي الجزائر، بدأت ملامح هذه التحولات تتجسد تدريجيًا، لا سيما في قطاعي الاقتصاد والتعليم العالي، رغم التحديات البنيوية التي تعترض طريق التحديث الرقمي الشامل.
في القطاع الاقتصادي، تشكل الرقمنة أحد أهم مفاتيح الانتقال نحو اقتصاد متنوع وفعّال. فقد شرعت الحكومة الجزائرية في رقمنة عدد من الخدمات الإدارية والجمركية والضريبية، ما ساهم في تقليص الإجراءات الورقية، وتحسين مناخ الأعمال. غير أن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، كأداة تحليل وتخطيط وتوقع، ما زالت في بداياتها. ويمكن لهذا المجال أن يحدث نقلة نوعية في ميادين مثل الزراعة الذكية، الخدمات المالية، والتجارة الإلكترونية، إذا ما تم الاستثمار الجاد في البنية التحتية الرقمية وتكوين الكفاءات المتخصصة.
أما في قطاع التعليم العالي، فقد أبانت جائحة كورونا عن هشاشة المنظومة في جانب التعليم عن بعد، لكنها في المقابل دفعت الجامعات إلى استكشاف آفاق الرقمنة بشكل أكثر جدية. اليوم، تسعى بعض الجامعات إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في التكوين والبحث العلمي، خصوصًا في مجالات الإعلام الآلي، الطب، والهندسة. كما يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تُحدث ثورة في طرق التدريس، عبر تطوير نظم تعليمية ذكية، وتخصيص المسارات التعليمية حسب قدرات الطلبة.
لكن الرهان الأكبر، يظل في بلورة رؤية وطنية مندمجة، تجعل من التحول الرقمي مشروعًا استراتيجيًا يشمل كل القطاعات، ويُبنى على قواعد: التكوين الجاد، تشجيع الابتكار، وتوفير بيئة قانونية وتشريعية مرنة.
إن الجزائر تملك كفاءات شبابية واعدة، وبإمكانها أن تتحول من مستهلك للتكنولوجيا إلى منتج ومصدر للحلول الرقمية، إذا ما تم الاستثمار في التعليم العالي كمحضنة للبحث، وفي الاقتصاد كمجال لتجريب هذه الحلول ميدانيًا.
الذكاء الاصطناعي ليس رفاهية تقنية، بل رافعة للتنمية، ومنصّة للسيادة . والجزائر، إن أحسنت استغلال هذا التحول، يمكن أن ترسم لنفسها موقعًا فاعلًا في عالم الغد، القائم على المعرفة والابتكار.من التحديات إلى الحلول: ما الذي يجب فعله؟
رغم المبادرات الرسمية والمشاريع المعلنة، يواجه التحول الرقمي في الجزائر جملة من التحديات، يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط رئيسية:
1. ضعف البنية التحتية الرقمية:
لا تزال العديد من المؤسسات، خصوصًا في المناطق الداخلية، تعاني من نقص في التجهيزات، وضعف في الربط بشبكات الإنترنت ذات الجودة العالية. وهذا يُبطئ من عملية التحول ويُكرّس الفجوة الرقمية بين الفئات والمناطق.
2. غياب التكامل بين القطاعات:
لا تزال المشاريع الرقمية في الجزائر غالبًا مجزأة، تفتقد إلى التنسيق المؤسسي، مما يؤدي إلى تكرار الجهود وعدم استغلال البيانات بشكل فعّال. في حين أن التحول الرقمي يتطلب منظومة مترابطة تشمل الوزارات، الجامعات، الشركات، والمجتمع المدني.
3. نقص التكوين المتخصص في الذكاء الاصطناعي:
لا يزال عدد الطلبة والباحثين المتخصصين في تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات ضئيلاً مقارنة بالاحتياجات المستقبلية. كما أن العلاقة بين الجامعة وسوق العمل لا تزال ضعيفة، ما يجعل المعرفة العلمية بعيدة عن التطبيق العملي.نحو خارطة طريق وطنية للتحول الذكي
ولمواجهة هذه التحديات، لا بد من التفكير في مقاربة شاملة ومندمجة، تنطلق من خمسة محاور رئيسية:
1. تحسين البنية التحتية الرقمية:
من خلال تعميم الألياف البصرية، وتحفيز استثمارات القطاع الخاص في التكنولوجيا، خاصة في المناطق ذات الإمكانيات الاقتصادية الواعدة.
2. إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي:
عبر إدماج وحدات تعليمية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، والتشجيع على إنشاء مخابر بحث رقمية، وتفعيل الشراكة بين الجامعات والمؤسسات الاقتصادية.
3. إنشاء وكالة وطنية للذكاء الاصطناعي:
تكون مكلفة بوضع استراتيجية وطنية، والتنسيق بين الفاعلين، وتقديم الدعم للمؤسسات الناشئة (startups) في المجال التكنولوجي.
4. تشجيع ريادة الأعمال الرقمية:
من خلال توفير حاضنات ومسرّعات أعمال، وتسهيل الولوج إلى التمويل والتسويق، وتحفيز المشاريع المبتكرة في مجالات مثل الزراعة، الصحة، الصناعة، والخدمات العمومية.
5. نشر ثقافة الذكاء الاصطناعي في المجتمع:
من خلال الإعلام والتكوين المستمر، وتشجيع النقاش العام حول استخداماته، فوائده، ومخاطره، لضمان اندماج مجتمعي سليم مع هذه التحولات.
من استهلاك التكنولوجيا إلى إنتاج الحلول
الجزائر اليوم أمام فرصة تاريخية: فإما أن تواكب ركب التحول الرقمي العالمي، وتستثمر في عقول شبابها وكفاءات جامعاتها، أو تبقى في موقع التلقي والاستهلاك.
الذكاء الاصطناعي ليس مستقبلًا بعيدًا، بل واقع يفرض نفسه بقوة، ونجاح الجزائر في هذا المجال لن يكون فقط مؤشرًا على التقدم التقني، بل على قدرتها السيادية على توجيه اقتصادها وتعليمها نحو الاستقلالية والكفاءة.