الخامس جويلية‪ ‬من ثورة التحرير إلى وحدة الأمة‬

‪ ‬‬ يمثل الخامس من جويلية 1962 منعطفاً تاريخياً حاسماً في مسيرة الشعب الجزائري، ليس كحدث انتهاء للاستعمار فحسب، بل كولادة جديدة لأمة استردت حقها في الوجود والسيادة. هذه الذكرى التي تحل هذا العام في ذكراها الثالثة والستين، تظل حية في الضمير الجمعي الجزائري كرمز للوحدة الوطنية والتضحية والفداء. ففي هذا اليوم التاريخي، تحررت الأرض …

يوليو 22, 2025 - 14:27
 0
الخامس جويلية‪ ‬من ثورة التحرير إلى وحدة الأمة‬

‪ ‬‬

يمثل الخامس من جويلية 1962 منعطفاً تاريخياً حاسماً في مسيرة الشعب الجزائري، ليس كحدث انتهاء للاستعمار فحسب، بل كولادة جديدة لأمة استردت حقها في الوجود والسيادة. هذه الذكرى التي تحل هذا العام في ذكراها الثالثة والستين، تظل حية في الضمير الجمعي الجزائري كرمز للوحدة الوطنية والتضحية والفداء. ففي هذا اليوم التاريخي، تحررت الأرض ومعها الإرادة والإنسان والهوية‪.‬‬
تكمن الأهمية التاريخية للخامس من جويلية في كونه يمثل تتويجاً لثورة شعبية استمرت سبع سنوات ونصف من الكفاح المسلح، وقرن واثنين وثلاثين عاماً من المقاومة بمختلف أشكالها.
إنه اليوم الذي تحولت فيه الجزائر من “مقاطعة فرنسية” حسب التصنيف الاستعماري إلى دولة ذات سيادة كاملة.
هذا التحول الجذري لم يكن ممكناً لولا إجماع وطني نادر جمع كل مكونات الشعب الجزائري تحت لواء جبهة التحرير الوطني‪.‬‬
في السياق الراهن، تكتسي هذه الذكرى أهمية مضاعفة في ظل التحديات التي تواجهها الدول الوطنية في عالم يتسم بالعولمة والتحولات الجيوسياسية الكبرى. فالخامس من جويلية لم يعد مجرد ذكرى تاريخية، بل أصبح مدرسة وطنية تعلم الأجيال الجديدة معنى التضحية والوحدة في مواجهة التحديات. إنه اليوم الذي تتجدد فيه العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، وبين الأجيال المختلفة‪.‬‬
تكمن أهمية هذه الذكرى في كونها تشكل اللحمة الأساسية التي تجمع بين كل الجزائريين على اختلاف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم الجهوية. فهي اليوم الذي تتجاوز فيه الجزائر كل انقساماتها لتلتقي على قيم التضحية والبطولة التي جسدها مليون ونصف المليون شهيد. إنه اليوم الذي يذكرنا بأن ما يجمعنا كجزائريين أكبر بكثير مما قد يفرقنا، وأن دماء الشهداء التي سقت تراب هذا الوطن كانت تضحيتها من أجل كل الجزائريين دون استثناء‪.‬‬
في المهجر، وخاصة في فرنسا، تكتسب هذه الذكرى أبعاداً إضافية. فالجالية الجزائرية هناك تعيش حالة من الازدواجية التاريخية بين ذاكرة الاستعمار وواقع الاندماج في المجتمع الفرنسي. وهذا ما يجعل من احتفالات الخامس من جويلية في فرنسا ظاهرة اجتماعية وسياسية معقدة، حيث تتحول من مجرد مناسبة وطنية إلى فعل مقاومة ثقافية يومي يحافظ على الهوية في مواجهة آليات التذويب‪.‬‬
في هذا الإطار، تأتي احتفالات القنصلية الجزائرية في بنتواز بفرنسا لتمثل نموذجاً حياً لهذه اللحمة الوطنية التي تتجاوز الحدود الجغرافية. فالجالية الجزائرية في الخارج، وخاصة في فرنسا، تحمل على عاتقها مسؤولية الحفاظ على هذه الروح الوطنية ونقلها للأجيال الجديدة التي ولدت ونشأت بعيداً عن الوطن الأم. وهذا ما تجلى بوضوح في الاحتفالية التي نظمتها القنصلية العامة للجزائر في بنتواز يوم 5 جويلية 2023‪.‬‬
بدأ الحفل الذي حضره أكثر من 500 شخص من أفراد الجالية وممثلي السلك الدبلوماسي وشخصيات فرنسية، بمراسم رفع العلم الوطني وقراءة الفاتحة ترحماً على أرواح الشهداء، تلاها دقيقة صمت إجلالاً لروحهم الطاهرة. هذه الطقوس التي قد تبدو شكلية للبعض، تحمل في الواقع دلالات عميقة تجسد استمرار الصلة الروحية بين الأجيال الحالية وجيل الثورة‪.‬‬
شكلت سلسلة التكريمات التي تمت خلال الحفل محوراً أساسياً يعكس فلسفة جديدة في تعامل الدولة الجزائرية مع جالياتها في الخارج. فالتكريمات حملت مضامين عميقة تستحق القراءة والتحليل‪.‬‬
أولاً: تكريم القنصل من قبل منظمة‪ OSHI ‬يمثل نموذجاً للعلاقة التكاملية بين المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في خدمة الجالية. فقد منحت المنظمة القنصل تكريماً خاصاً تقديراً لجهوده في تسهيل الإجراءات القنصلية ودعم قضايا الجالية. هذا التكريم يأتي في سياق سياسة جديدة تتبناها الجزائر لتعزيز التواصل مع مغتربيها، حيث لم تعد العلاقة تقتصر على الجانب الخدماتي، بل أصبحت تشمل الجانب التقديري والمعنوي‪.‬‬‬
ثانياً: تكريمات القنصلية لعدد من نشطاء الجالية، ومن بينهم السيد عثمان نغموش شزيل رئيس منظمة‪ OSHI‬، والسيد حسان حفصي نائب الرئيس، والسيدة غنام صليحة المكلفة بالإعلام، بالإضافة إلى السيدة وهيبة بوعجيلة والسيد يوسف جعفر والسيدة مايسا صدراتي ، كلها تكريمات تعكس إدراكاً عميقاً لأهمية العمل الجمعوي في الحفاظ على هوية الجالية وتماسكها. فهؤلاء المكرمون يمثلون نماذج للعمل التطوعي الذي يسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية بين أفراد الجالية وفي نفس الوقت يحافظ على صلتهم بالوطن الأم‪.‬‬‬
ثالثاً: تكريم المتفوقين في شهادة البكالوريا يمثل بعداً استراتيجياً في سياسة التواصل مع الجالية. فالدولة هنا لا تقدر الماضي فقط، بل تستثمر في المستقبل من خلال تشجيع الأجيال الجديدة على التميز الأكاديمي. هذا التوجه يعكس فهماً عميقاً لدور الكفاءات الجزائرية في المهجر في بناء مستقبل الوطن‪.‬‬
تمثل احتفالات الخامس من جويلية في المهجر فرصة لإعادة تعريف مفهوم الوطنية في ظل العولمة. فالجالية الجزائرية في فرنسا، من خلال هذه الاحتفالات، تثبت أن حب الوطن ليس مرتبطاً بالجغرافيا، بل هو قيم وتضحيات وذاكرة مشتركة.
إن التكريمات التي تمت خلال الحفل لم تكن مجرد مكافآت لأفراد، بل كانت رسالة واضحة بأن الدولة تقدر كل من يسهم في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الروابط بين أبناء الجالية‪.‬‬
إن ذكرى الخامس من جويلية ستظل مدرسة وطنية متجددة تذكرنا بأن الوحدة الوطنية هي ممارسة يومية تتجسد في احترام التضحيات والسير على درب البناء. والجالية الجزائرية في فرنسا، من خلال احتفالاتها بهذه الذكرى الخالدة، تقدم نموذجاً حياً لكيفية الحفاظ على هذه الروح الوطنية رغم بعد المسافة واختلاف الظروف‪.‬‬
‪ ‬‬

صلاح الدين مرزوقي‪
‬‬