المدارس القرآنية بين شرف الرسالة وانحراف الممارسة: دعوة للتصحيح المقاصدي
عبد الفتاح داودي * أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم لا ليُتلى بالشفاه ويُعلّق في الصدور، بل ليُفعّل في العقول والسلوك والعمران، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ * لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ * وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وجعل الغاية من إنزاله إخراج الإنسان من الظلمات إلى النور ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى …

عبد الفتاح داودي *
أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم لا ليُتلى بالشفاه ويُعلّق في الصدور، بل ليُفعّل في العقول والسلوك والعمران، قال تعالى:
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ * لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ * وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وجعل الغاية من إنزاله إخراج الإنسان من الظلمات إلى النور ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم: 1]. وهذا ما بيّنه النبي ﷺ عمليًا في سيرته، حينما لم يكتفِ بتعليم الآيات، بل ربّى بها جيلًا غيّر مجرى التاريخ.
غير أن واقع كثير من المدارس القرآنية المعاصرة – مع الاعتراف بجهودها المشكورة – يعاني من انفصال خطير بين النص والمقصد، بين الحفظ والتكوين، بين الصوت والرسالة. فقد تحوّلت عند البعض إلى مؤسسات تُخرّج قراءً للعرض لا بناةً للحياة، وتُقدّم القرآن كوسيلة للتميز الشكلي لا كمنهج للتغيير الداخلي. وهذا يتناقض مع مقصد البعثة النبوية الذي حدّده الله تعالى بقوله:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ * يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ * وَيُزَكِّيهِمْ * وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2]، فالتزكية والتربية مقدمة على التعليم الشكلي.
إن تحويل الحفظ من وسيلة إلى غاية، وربط تعليم القرآن بالجوائز والعروض، هو انحراف في التصور، لا يقل خطورة عن القطيعة مع القرآن. فقد قال ﷺ: «من قرأ القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل» [صحيح البخاري]، وفي رواية أحمد: «اقرؤوا القرآن، واعملوا به، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه».
هذا القصور المنهجي ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لفقدان الرؤية المقاصدية في التعليم القرآني، رغم أن علم المقاصد هو كما عبّر عنه الإمام الطاهر بن عاشور: «روح الشريعة، وحِكمتها وغايتها، وبه يُدرَك وجه المصلحة في أحكام الدين، وهو شرط الاجتهاد الصحيح» [مقاصد الشريعة، ص: 5]. من هنا، فإن غياب هذا البعد عن المدارس القرآنية يجعلها – وإن سُمّيت «قرآنية» – أقرب إلى مراكز صوتية منها إلى محاضن ربانية.
لقد حذر الإمام الشاطبي من الجمود على ظواهر النصوص قائلاً: «من أكبر أسباب الانحراف عن مقاصد الشريعة الوقوف عند الألفاظ دون فقه معانيها، وظواهر النصوص دون تفكر في مرادها» [الموافقات، 2/302]. وهو ما ينطبق على نماذج الحفظ الظاهري الذي لا يثمر خشيةً ولا خلقًا. فقد أصبح من المألوف أن يُكرَّم الطفل لحفظه دون النظر إلى أثر ذلك في خلقه وسلوكه، في حين أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعلم ما فيهن من العلم والعمل».
وهذا ما يفتقده واقع التعليم القرآني اليوم: المزاوجة بين الفهم والتزكية، بين الحفظ والبصيرة، بين العلم والعمل. فبدلًا من أن تُربّى الناشئة على التدبر ومقاصد السور، يُدرَّبون على التلاوة المقطعية والزينة الصوتية، ثم يُقذف بهم إلى المسابقات كأنهم آلات أداء. وهذا خلل في المسار التربوي، يُفرغ القرآن من رسالته ويحوّله إلى وسيلة اجتماعية لا دعوة إصلاحية.
وقد نبه مالك بن نبي إلى هذه المأساة الحضارية بقوله: «المشكلة الكبرى في المجتمعات الإسلامية ليست في فقدان القرآن، بل في انفصال الفكر عن الفعل، والنص عن الواقع، والعقيدة عن السلوك».
ومن الجوانب العملية التي تحتاج إلى إصلاح عاجل:
– أن يُعاد النظر في فلسفة التعليم القرآني داخل المدارس، بحيث يُعاد توجيه الهدف من مجرد حفظ النصوص إلى بناء الإنسان الذي يعقلها ويعيشها.
– أن يُؤصّل البعد المقاصدي في البرامج التعليمية، من خلال تضمين معاني العدل، والحرية، والرحمة، والعمران، والكرامة في شرح السور والآيات، وليس فقط أحكام التجويد أو عدد الحروف.
– أن يُراجع المعلمون أدواتهم التربوية، بعيدًا عن العنف أو الجمود، تأسِّيًا بسيرة النبي ﷺ الذي قال له ربه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159].
– أن يُعاد تدريب المعلّمين على فقه المقاصد، والتربية بالقدوة، وفهم حاجات الطفل النفسية والاجتماعية، ليكون المعلّم هاديًا لا ملقِّنًا، مربّيًا لا مؤدِّبًا شكليًا، كما قال ابن عاشور: «كل من علّم بغير مقصد فقد خان الأمانة».
– أن يُدمَج القرآن بالحياة، فلا يُدرس في عزلة عن واقع الأمة، بل في تفاعل مع قضاياها، كما قال تعالى:
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
إن بناء جيل قرآني فاعل يبدأ من تصور جديد للمدرسة القرآنية: مدرسة تُعلّم بالتزكية، تُربّي بالفهم، وتستثمر في المستقبل لا في المناسبة. وإن لم نُراجع مناهجنا اليوم بصدق وجرأة، فسيبقى القرآن – في وعي الناشئة – مجرد نص محفوظ لا مشروع حياة، وفي ذلك خسارة ما بعدها خسارة.
فالمدرسة القرآنية التي لا تفهم الطفل ولا تحتضنه، لن تصنع حافظًا راسخًا، ولا إنسانًا رساليًا، وكل تحفيظ لا يُثمر وعيًا وتزكية، هو جهدٌ قد يُبذل في غير موضعه.
والمدرسة القرآنية الصيفية ليست لحظة عابرة، بل حلقة في سلسلة إعداد طويل لبناء الإنسان القرآني، فلا بد من تحويل هذه المحاضن الموسمية إلى امتدادات سنوية، ومرافقة مستدامة للطفل والناشئ، والتحفيظ بدون مشروع متابعة وتزكية مستمرة، قد ينتج حافظًا بلا وعي، أو قارئًا بلا أثر.
فلنَرتقِ بهذه المحاضن من التصورات المحدودة إلى آفاق الرسالة الخالدة، ولنحوّل مدارسنا إلى مصانع للقلوب الذاكرة، العقول الواعية والنفوس الراشدة، وذاك هو طريق النهضة وبداية التغيير، والله الموفق.
* عين ولمان – جامعة المسيلة –