المئويات والإنجازات!

أ.د: عبد الحليم قابة رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرييـن/ مرّت قبلَ سنة، وتمرُّ في هذه السنة، وستمر بعد سنوات قليلة، مئويات ثلاثة على تأسيس جماعات وجمعيات في عالمنا الإسلامي المديد، كان لها أثر كبير -على مدى عقود – على حياة الناس، وعلى نهضة الأمة ووعيها واستقلالها عن هيمنة أعدائها، واستمرّ هذا الأثر إلى يومنا هذا …

يونيو 2, 2025 - 16:25
 0
المئويات والإنجازات!

أ.د: عبد الحليم قابة
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرييـن/

مرّت قبلَ سنة، وتمرُّ في هذه السنة، وستمر بعد سنوات قليلة، مئويات ثلاثة على تأسيس جماعات وجمعيات في عالمنا الإسلامي المديد، كان لها أثر كبير -على مدى عقود – على حياة الناس، وعلى نهضة الأمة ووعيها واستقلالها عن هيمنة أعدائها، واستمرّ هذا الأثر إلى يومنا هذا مما يجعل تجاهلها وعدم الاستفادة منها وتغييبها عن تاريخ الأمة، جهالةً كبيرة، وخطأ تاريخيا يترتب عليه عزلُ الأجيال عن أمجادها وتاريخها ومواطن الفخر والإفادة من ماضيها، بغضّ النظر عن التقييم والتقويم، والقبول والردّ، والإقرار والإنكار.

والمقصود بالمئويات هنا: مئوية جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر (2024-1924)، ومئوية جمعية الحياة التي نشأت في جنوب الجزائر في بلاد ميزاب (1925- 2025)، ومئوية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي نشأت في الجزائر (2031-1931).
وهذه الثلاثة لا ريب هي من الجماعات والجمعيات الفاعلة والمؤثرة التي مرّت بها –أو كادت – مئةُ سنة على تأسيسها وإعلان نشأتها والتصريح بأهدافها.
ومبرر ذِكرِنا لهذه الثلاثة – فقط – دون غيرها، هو -أساسا – التقارب الزمني لمئوية كلّ واحدة منها، ثمّ تقارب أهدافها، وتقارب أثرها، وتقارب وسائلها، وتقارب آثارها وثمارها.
ونحن نكاد نجزم بهذا التقارب من خلال ما هو مبثوث في كتب هذه الجمعيات ومنشوراتها، وفي أدبيّاتها، وفي تنظيراتها وتخطيطاتها، ممّا يمكن الوقوف عليه بيسر وسهولة لمن أراده.
وأما واقع هذه الجمعيات؛ فأمر آخر، ولستُ هنا بمعرض النقد والتقييم، فذلك له وقته ورجاله ومجاله، ولكني هنا سأحاول الاستفادة من الحدث وهو مرور مئة سنة على تأسيس هذه الجمعيات الفاعلة والتي صارت حديثَ الناس وشُغلَهم الشاغل، سواء الموافق أو المخالف، والتي لا يستطيع أيُّ منصف إنكار آثارها أو تجاوز ما يُرى من ثمارها، أو التغاضي عن التسليم باشتهارها، وبمقام مؤسسيها ورجالها.

فأقول -وبالله التوفيق -:
أولا: ينبغي ألّا نشُكّ في أن مرور مئة سنة على استمرار دعوة من الدعوات، خصوصا الإصلاحية منها، وعلى مواصلة أعمالها وتحقيق أهدافها، يُعدُّ مؤشرا واضحا وقرينة بيِّنة على نجاح هذه الدعوة وأنها إنجازٌ عظيم امتد أثره كل هذه السنين، وأن وراء ذلك -دون ريب – أخذٌ بأسباب النجاح المادية والمعنوية، مما كان سببا في محالفة التوفيق الرباني لها، وأن من الرّشد دراسة هذه الأسباب –دون تعصب مع أو على – والاستفادة منها بوعيٍ وهداية في واقعنا المتطور في ظلِّ فقه الثابت والمتغيّر، وفي ظل ما تقتضيه عملية التجديد الحالي والمنتظَر.

ثانيا: ينبغي ألّا نختلف على أن وراء هذا التعمير أسبابا، منها:
– التوفيق الرباني للمؤسسين والقائمين والداعمين؛ فإن من أحبه الله جعله سببا لنفع عباد الله، ولا نفع أفضل من نفع الناس في دينهم وعوامل ثباتهم ومعاقد عزِّهم.
– ومنها: الأخذُ بأسباب النجاح والتفوق وتحقيق الغايات، كالصبر والثبات، والتضحية والتفاني، والصدق والإخلاص، وغيرها من الأسباب اللازمة لبلوغ المقاصد.
– ومنها: التطوير المستمر، والتأقلم مع المتغيّرات، وما يلزم لذلك من المتطلّبات، مع الحفاظ على الثوابت والقواطع، الأمر الذي جعل الأمة تثق في رجالها ومشاريعها وأعمالها، وهو من أكبر عوامل ومعالم الثقة والطمأنينة والثبات على الولاء والدعم والتعاون، الذي كان وراء البقاء والاستمرار والنجاح.
– ومنها غير ذلك مما هو مبثوث في كتب فقه الدعوة، ومعالم الإصلاح، وتجارب المصلحين، ومُذكِّرات المجددين.

ثالثا: ينبغي أن لا نُقصِّر في الاعتبار وأخذ الدروس وحسن الاستفادة من هذه التجارب التجديدية التي عشنا –وما زلنا نعيش – بعض فصولها، ونحوِّل الدراسة التاريخية والاستكشافية إلى مشاريع عملية تستنير بسبقهم وخبرتهم وما أجراه الله على أيديهم، وتتأقلم مع العصر والواقع الجديد، والتطور الفظيع الذي تعيشه البشرية هذه الأيام، مع تجنّب ما أثبتت الأدلة أو التجارب خطأه أو انحرافه، أو مخالفته لما هو أولى.

رابعا: ينبغي أن لا نغفل -ونحن نُحيي هذه المناسبات بما يتناسب مع أهميتها وعظمتها – على أن العبرة ليست بطول الأزمان، ولا بالربوع والأوطان، بل العبرة بما فُعل فيها من الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق وبالصبر، وأن خيرَنا من طال عُمره وحسن عمله، وأن شرَّنا من طال عمره وفسد عمله، فننتبه إلى أولوية التركيز على صفاء السرائر وحسن النيات وسلامة الأعمال واستقامة المسالك، «ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين» فالأرض لا تقدّس أحدا، والزمان لا يدافع عن ذنوب أحد، إنما سنّة الله أن «من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد»

خامسا: محاولة الوقوف بوعي وذكاء عند مواطن الوفاق والإجماع لتكون لها الأولوية في الانشغال والترتيب والتقديم والتأخير؛ لأن توافق الكبار والعقلاء الأخيار في المناهج والأولويات والانشغالات والاختيارات، دليل -أو قرينة – على رشد المسلك وصواب الأمر، فيكون ذلك من أقوى أسباب الطمأنينة في الاقتداء، والصواب في الاهتداء.

سادسا: التصرف بحكمة الحكماء ورشد العلماء وحنكة العقلاء مع مواطن الخلاف، والتفريق -بحزم وعلم – بين ما يحتمل الخلاف وما لا يحتمله؛ فنتسامح ونوسع صدورنا في ما يدخل في هذه الدائرة الثانية، ولا نضيق ذرعا بالخلاف فيها، ولا نجعلها سببا للتنازع والشقاق الذي يُعطل المسيرة ويكرس الأحقاد ويضر بالبلاد والعباد، ونفوِّت الفرصة على أعدائنا بالتزام أدب الخلاف بيننا، وبتحويل خلافاتنا إلى مصدر قوة بتنوعنا وتعدد الرؤى عندنا، ونوجه خلافاتنا إلى مقارعة أعدائنا.
ثمّ نجتهد –بصدقٍ وتفانٍ – في أن لا يسري الخلاف أبدا إلى الدائرة الأولى (دائرة القطعيات، ومسائل الإجماع اليقيني، والمعلوم من الدين بالضرورة)؛ لأنها لا تحتمل الخلاف، وهي القاسم المشترك بين كل المسلمين الذين بقوا ضمن دائرة الإسلام الجامع.
ويبقى –مع ذلك – بابُ الحوار والنقاش مفتوحا -خصوصا في دائرة المسائل الخلافية – بالتزام الاستدلال السليم والمناظرة الحكيمة، والنية الصادقة لمعرفة الحق، والتخلص من التقليد دون دليل، لعلنا نجتمع يوما ما على كلمة سواء، ونزداد قربا من الوفاق، وتقل عوامل الشقاق، وننشغل -بعد ذلك وقبله – بآيات الله في الأنفس والآفاق. والله الموفق.