باب كانستيل أو بوابة البحر مدخل المدينة وهران القديمة

مجتمع: وهران، المدينة التي تتأرجح بين الحقيقة والخيال، بين التاريخ والأسطورة، وبين العادات والمعتقدات، لا تزال حتى اليوم تختزن في حجارتها وطرقاتها حكايات ترددها الأجيال،ومن أبرز معالمها التي تأبى أن يطويها النسيان، باب كانستيل، أحد الأبواب التاريخية التي شكلت مداخل مدينة وهران العتيقة، والذي ارتبط اسمه بالأحداث الكبرى التي صنعت مسار المدينة عبر القرون. لقد كانت وهران قديماً قرية صغيرة محصورة في أسوارها التي بلغ طولها أكثر من ألفي متر، ومن بين تلك الأسوار برز باب كانستيل كمدخل رئيسي يقود نحو البادية وبرج سانتا كروز وطريق مرسى الكبير،تؤكد النقوش الحجرية أن تأسيسه يعود إلى سنة 1747، ثم أضيفت إليه بوابة جديدة سنة 1754 لتعزيز تحصيناته،غير أنّ الباب لم يكن مجرد منفذ عبور، بل كان شاهدًا على تحولات سياسية وعسكرية كبرى، إذ منه دخل الكردينال سيسميناس سنة 1509 عند احتلال الإسبان لوهران. ومنه جاء في حديث بركات نعامة الهواري مؤرخ في التراث اللامادي لدى الديوان الوطني لتسير واستغلال الممتلكات الثقافية بوهران أنه باب ذكره المؤرخون كثر في مؤلفاتهم، ومنهم الدكتور “شو” الذي أشار إليه أثناء زيارته للمدينة في عهد الباي مصطفى بن يوسف النسراتي، واصفًا إياه ببوابة البحر، كما ارتبط الباب بقبيلة كريشتل المغوارية التي اعتادت دخول وهران عبره للتجارة، في صورة تعكس الدور الاقتصادي والاجتماعي لهذا المعلم. لكنه كان أيضاً بوابة للجيوش الغازية، إذ دخل منه الملك فيليب الرابع خلال زيارته التفقدية سنة 1567، في فترة كانت فيها وهران مسرحاً لصراعات محتدمة بين القوى الأجنبية وإلى جانب رمزيته التاريخية، تميز باب كانستيل ببنية معمارية فريدة. فقد شيد بالحجارة المنحوتة التي ما تزال شاهدة على متانة البناء، وتشهد على عبقرية الصناع القدامى. في داخله كان هناك جدار مائل يسمح بدخول العربات والأسلحة الثقيلة، كما أُنشئ منحدر خاص أطلق عليه الإسبان اسم منحدر مدريد، حيث كانت الجيوش تتخذ منه طريقاً نحو قلب المدينة، ولم يقتصر دوره على الممرات الظاهرة، بل احتوى أيضاً على شبكة أنفاق أرضية، أبرزها نفق يؤدي إلى برج أبي الحسن المريني (البرج الأحمر)، مما جعله جزءاً من منظومة دفاعية سرية متكاملة كانت توفر للمدينة القدرة على المناورة والانسحاب وقت الحصار وفي ذات السياق اكد نفس المتحدث أـنه ومع حلول الحقبة الاستعمارية الفرنسية، تعززت قيمة الباب من الناحية العمرانية، إذ شيد فوقه حصن مربع مزود بستة مدافع، وبوابتان كبيرتان مقوستان تضفيان عليه مظهراً مهيباً. لم يكن باب كانستيل مجرد مدخل حجري، بل أصبح رمزاً لأسلوب معماري يجمع بين الطابع الاسلامي والإسباني، شاهداً على التمازج الثقافي الذي عرفته وهران عبر تاريخها. غير أن التحولات التي عرفتها المدينة في القرن التاسع عشر أفرزت بدورها تغييرات على المحيط العمراني للباب، إذ أغلقت منابع المياه القريبة منه سنة 1848 من أجل إنشاء شارع ،الا انه بقي الباب قائماً في حي سيدي الهواري العتيق، محافظاً على مكانته لدى سكان المنطقة الذين ما زالوا يعتبرونه جزءاً من هويتهم الجماعية وذاكرتهم الشعبية، ولعل هذا ما جعل السلطات تصنّفه سنة 1952 ضمن التراث الوطني، في اعتراف صريح بقيمته التاريخية والحضارية. وقد أتاح موقع وهران الاستراتيجي، المطل على البحر الأبيض المتوسط والمفتوح على طرق التجارة بين شمال إفريقيا والأندلس، أن تكون مركزاً لتلاقح الحضارات، وهو ما انعكس على باب كانستيل الذي ظل يستقبل القوافل، والتجار، والغزاة على حد سواء. فهو ليس حجراً صامتاً، بل كتاب مفتوح يروي فصولاً من صراع الإمبراطوريات وتداول النفوذ بين المرينيين، والإسبان، والعثمانيين، ثم الفرنسيين. ومع مرور الزمن، تحول الباب إلى معلم سياحي بارز، يقصده الزوار من داخل الجزائر وخارجها، يبحثون بين أحجاره عن عبق الماضي ورونق العمارة القديمة. فعند الوقوف أمامه، يتأمل الزائر كيف قاومت تلك الحجارة عوامل الزمن، وكيف ظلت تحتفظ بأسرارها بين الشقوق والزوايا. إن ملامحها تروي قصص الحصار والمعارك، وقصص الأسواق والمواسم، وقصص المحبة التي جمعت أهل وهران في حي سيدي الهواري حيث لا يزال صدى الأجيال يتردد. إن باب كانستيل اليوم ليس مجرد أثر من آثار الماضي، بل هو ذاكرة مدينة بأكملها، وجزء من الهوية الثقافية للجزائريين عامة والوهرانيين خاصة. فهو يعكس قدرة وهران على الجمع بين الأصالة والانفتاح، بين الحكاية والتاريخ، وبين الأسطورة والحقيقة. لذلك سيبقى هذا الباب رمزاً لوهران، المدينة التي تحافظ على أصالتها في وجه الحداثة، وتروي للأجيال القادمة قصصاً كتبتها الحجارة بمداد الزمن.

أغسطس 25, 2025 - 17:19
 0
باب كانستيل أو بوابة البحر مدخل المدينة وهران القديمة
مجتمع:
وهران، المدينة التي تتأرجح بين الحقيقة والخيال، بين التاريخ والأسطورة، وبين العادات والمعتقدات، لا تزال حتى اليوم تختزن في حجارتها وطرقاتها حكايات ترددها الأجيال،ومن أبرز معالمها التي تأبى أن يطويها النسيان، باب كانستيل، أحد الأبواب التاريخية التي شكلت مداخل مدينة وهران العتيقة، والذي ارتبط اسمه بالأحداث الكبرى التي صنعت مسار المدينة عبر القرون. لقد كانت وهران قديماً قرية صغيرة محصورة في أسوارها التي بلغ طولها أكثر من ألفي متر، ومن بين تلك الأسوار برز باب كانستيل كمدخل رئيسي يقود نحو البادية وبرج سانتا كروز وطريق مرسى الكبير،تؤكد النقوش الحجرية أن تأسيسه يعود إلى سنة 1747، ثم أضيفت إليه بوابة جديدة سنة 1754 لتعزيز تحصيناته،غير أنّ الباب لم يكن مجرد منفذ عبور، بل كان شاهدًا على تحولات سياسية وعسكرية كبرى، إذ منه دخل الكردينال سيسميناس سنة 1509 عند احتلال الإسبان لوهران. ومنه جاء في حديث بركات نعامة الهواري مؤرخ في التراث اللامادي لدى الديوان الوطني لتسير واستغلال الممتلكات الثقافية بوهران أنه باب ذكره المؤرخون كثر في مؤلفاتهم، ومنهم الدكتور “شو” الذي أشار إليه أثناء زيارته للمدينة في عهد الباي مصطفى بن يوسف النسراتي، واصفًا إياه ببوابة البحر، كما ارتبط الباب بقبيلة كريشتل المغوارية التي اعتادت دخول وهران عبره للتجارة، في صورة تعكس الدور الاقتصادي والاجتماعي لهذا المعلم. لكنه كان أيضاً بوابة للجيوش الغازية، إذ دخل منه الملك فيليب الرابع خلال زيارته التفقدية سنة 1567، في فترة كانت فيها وهران مسرحاً لصراعات محتدمة بين القوى الأجنبية وإلى جانب رمزيته التاريخية، تميز باب كانستيل ببنية معمارية فريدة. فقد شيد بالحجارة المنحوتة التي ما تزال شاهدة على متانة البناء، وتشهد على عبقرية الصناع القدامى. في داخله كان هناك جدار مائل يسمح بدخول العربات والأسلحة الثقيلة، كما أُنشئ منحدر خاص أطلق عليه الإسبان اسم منحدر مدريد، حيث كانت الجيوش تتخذ منه طريقاً نحو قلب المدينة، ولم يقتصر دوره على الممرات الظاهرة، بل احتوى أيضاً على شبكة أنفاق أرضية، أبرزها نفق يؤدي إلى برج أبي الحسن المريني (البرج الأحمر)، مما جعله جزءاً من منظومة دفاعية سرية متكاملة كانت توفر للمدينة القدرة على المناورة والانسحاب وقت الحصار وفي ذات السياق اكد نفس المتحدث أـنه ومع حلول الحقبة الاستعمارية الفرنسية، تعززت قيمة الباب من الناحية العمرانية، إذ شيد فوقه حصن مربع مزود بستة مدافع، وبوابتان كبيرتان مقوستان تضفيان عليه مظهراً مهيباً. لم يكن باب كانستيل مجرد مدخل حجري، بل أصبح رمزاً لأسلوب معماري يجمع بين الطابع الاسلامي والإسباني، شاهداً على التمازج الثقافي الذي عرفته وهران عبر تاريخها. غير أن التحولات التي عرفتها المدينة في القرن التاسع عشر أفرزت بدورها تغييرات على المحيط العمراني للباب، إذ أغلقت منابع المياه القريبة منه سنة 1848 من أجل إنشاء شارع ،الا انه بقي الباب قائماً في حي سيدي الهواري العتيق، محافظاً على مكانته لدى سكان المنطقة الذين ما زالوا يعتبرونه جزءاً من هويتهم الجماعية وذاكرتهم الشعبية، ولعل هذا ما جعل السلطات تصنّفه سنة 1952 ضمن التراث الوطني، في اعتراف صريح بقيمته التاريخية والحضارية. وقد أتاح موقع وهران الاستراتيجي، المطل على البحر الأبيض المتوسط والمفتوح على طرق التجارة بين شمال إفريقيا والأندلس، أن تكون مركزاً لتلاقح الحضارات، وهو ما انعكس على باب كانستيل الذي ظل يستقبل القوافل، والتجار، والغزاة على حد سواء. فهو ليس حجراً صامتاً، بل كتاب مفتوح يروي فصولاً من صراع الإمبراطوريات وتداول النفوذ بين المرينيين، والإسبان، والعثمانيين، ثم الفرنسيين. ومع مرور الزمن، تحول الباب إلى معلم سياحي بارز، يقصده الزوار من داخل الجزائر وخارجها، يبحثون بين أحجاره عن عبق الماضي ورونق العمارة القديمة. فعند الوقوف أمامه، يتأمل الزائر كيف قاومت تلك الحجارة عوامل الزمن، وكيف ظلت تحتفظ بأسرارها بين الشقوق والزوايا. إن ملامحها تروي قصص الحصار والمعارك، وقصص الأسواق والمواسم، وقصص المحبة التي جمعت أهل وهران في حي سيدي الهواري حيث لا يزال صدى الأجيال يتردد. إن باب كانستيل اليوم ليس مجرد أثر من آثار الماضي، بل هو ذاكرة مدينة بأكملها، وجزء من الهوية الثقافية للجزائريين عامة والوهرانيين خاصة. فهو يعكس قدرة وهران على الجمع بين الأصالة والانفتاح، بين الحكاية والتاريخ، وبين الأسطورة والحقيقة. لذلك سيبقى هذا الباب رمزاً لوهران، المدينة التي تحافظ على أصالتها في وجه الحداثة، وتروي للأجيال القادمة قصصاً كتبتها الحجارة بمداد الزمن.
باب كانستيل أو بوابة البحر مدخل المدينة وهران القديمة