براغماتية الفوضي والفوضى البراغماتية
مع كل زيارة لرئيس أمريكي للمنطقة العربية لا سيما منها إلى الخليج، يثار الجدل، وتتعدد الأسئلة، وتكثر الطروحات والتفسيرات، وتستدعى عديد القضايا المتصلة بالواقع العربي في عمومه، ترتجع في جلها إلى جذور أزمة نشوء الدولة القُطرية العربية، ظروفا وظيفة وتوظيفا، وذلك بسبب هذه الحالة من الاستدامة في النقص السيادي وانتفاء عنصر المشروع السياسي والتنموي ذي …

مع كل زيارة لرئيس أمريكي للمنطقة العربية لا سيما منها إلى الخليج، يثار الجدل، وتتعدد الأسئلة، وتكثر الطروحات والتفسيرات، وتستدعى عديد القضايا المتصلة بالواقع العربي في عمومه، ترتجع في جلها إلى جذور أزمة نشوء الدولة القُطرية العربية، ظروفا وظيفة وتوظيفا، وذلك بسبب هذه الحالة من الاستدامة في النقص السيادي وانتفاء عنصر المشروع السياسي والتنموي ذي البعد الوطني والأفق القومي العربي، ومعه تستديم الخطابات النقدية ارتباطا باستمرار أسباب اثارتها، كدليل على أن التغيير ببعديه الزمني، أي ذلك الذي يحتمه تقلب الزمن المجرد، أو التاريخي الذي ينتج عن التحولات الحضارية، يكاد ينعدم كلية في الفضاء الزمكاني العربي، إلا ما سعت آلة البروباغندا إلى ترسيخه وعقل ووجدان الانسان العربي، عبر افتعال حقيقة أن ما هو منظور على الأرض من مصانع وأنابيب ومركبات ومبان شاهقة هو آية الحكمة والواجهة التي تتصف بها الأسر والعصب والنخب الحاكمة في هذا العالم المنعوت جزافا بكونه عربي أو عروبي !
إن هكذا سجالات وجدالات تثيرها في كل مرة يزور فيها رئيسا أمريكيا المنطقة والخليج على وجه أخص، وبالصرف النظر عن الظروف والسياقات التي تندرج فيها تلكم الزيارة، تفرض بسط تساؤلات للنقاش والتحليل، ربما كان أبرزها: ما هي طبيعة المعضلة العربية التي تعوق تحولها في النطاق السيادي من الوظيفية إلى الفاعلية؟ ولماذا هذا الأسر الذاتي أو الارتهان الدائم في أجندة الغير حتى مع التغييرات المتعددة والمتسارعة التي يعرفها المشهد الدولي في شاكلته وإشكالاته؟
الظرف الدولي المتلبس
ليس أجلى وأوضح اليوم للملاحظ السياسي البسيط، من حالة الغبش والضباب التي تكتتف الوضع الدولي وتحول دون أن يعاد اكتشافه مجددا بما يتيح قراءاته قراءة موضوعية، وهذا لسبب بسيط، هو هذا الغبار المتطاير في لعبة النفوذ ومساعي الهيمنة على سلطة القرار ومقود الحضارة في العالم بين قوى كلاسيكية وأخرى تتقدم ببطء لكن بثبات، وهو ما يزيد حتما من منسوب السوسبانس والقلق على طاولة لعبة هذا الصراع.
فهذا التلبس والغبش الذي يميز اللعبة الدولية، يؤكد بما لم يَعد يرقى إليه أدنى عنصر من الشك، بأن العالم الآن في حالة انولاد أو انوجاد قسري جديدة، بما يعني أن العالم هو الآن بصدد البحث عن شكل له جديد متجدد يفسر المعنى الذي بلغه بعد أزيد من ثلاث عقود عن نهاية منظوماته السابقة التي توجت نهاية حرب باردة بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وسقوط الاتحاد السوفياتي.
وإذا كان هذا العالم الجديد أو المتجدد هو اليوم بإزاء البحث عن شكل جديد له، في ظل ما هو حاصل من استقطابات وتجاذبات بين فاعلي القوة فيه، فإنه في العالم المسمى عربيا، لا تزال الدولة بوصفها الفاعل الرئيس في العلاقات الدولية، تبحث لها عن شكل جدي وجديد يجعلها في حلبة هذا الصراع تتحول إلى رقم محترم.
فالدولة القُطرية العربية في طبيعة نشوئها واستمراريتها لا تزال هي مشكلة ذاتها بذاتها، لأنها أبعد ما تكون عن توافر عناصر التطور وعبور أطوار التاريخ والحضور بالتالي في بهوه بكامل ما يلزم من شروط وآليات.
فالمفارقة هنا كبيرة بين عالم يعيش في بعد علاقاته الدولية اشكالاته الخاصة، وهو يبحث له عن شكل جديد، بعد أن طوى مراحل عدة في مستويات بنائه كان آخرها استهلاك تام لمعطى الحالة القُطرية أو ما تعرف بالدولة الوطنية، وذلك مع ارتقاء الفكر الليبرالي الرأسمالي وما أفرزه من بروز فاعلين جدد، وضعوا الوظيفة المركزية لنمط هذه الدولة “الوطنية” بين قوسين، وعالم عربي لا يكاد يبرح حدود إشكالاته الأولى المتعلقة باستواء الدولة القطرية على عودها وقيامها على الأسس الصحيحة التي رسمت تجربة الغرب، وقادت أممه وشعوبه إلى ما هم عليه اليوم من حالة وما قطعوه في سبيل ذلك من مراحل.
براغماتية الفوضي والفوضى البراغماتية
إن ما تكرر من نقد وانتقاد للسلوك الخليجي في التعاطي مع الوضع الدولي الحالي، بمواصلة تقديم الولاء غير المشروط للولايات المتحدة الأمريكيةـ بل والأكثر منه الانتقال في ذلك من مرحلة الالتزام الطوعي الفردي، إلى مرحلة الدعوة إليه والالزام به، في ما هو مشهود في برنامج “سوق التطبيع” والتأسيس الأيديولوجي العقدي له من خلال ما صار يعرف بالاتفاقية الابراهيمية، ليضع ذلك كله الخطاب العربي موضوع المراجعة والتفكيك لتبيان الوضع الحقيقي لهذا العالم الذي أضحى مكشوفا، أنه حقا مثلما تطرحه سلفيته الدينية العلمية المتشككة في العلوم الحديثة “لا يدور أرضا ولازمنا !!”
ومن ثم استوجب طرح السؤال الموجع، هل لا يزال حقا بالإمكان استعادة أدوات التحليل القديمة للمعضلة الحضارية العربية من خلال ثنائيتها الصدامية التي شكلت الخطاب النقدي لتجربتها العربية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ذلك الخطاب الذي نشأ مع ظهور القطرية العربية ولازمها ورافقها باعتباره معيار نجاح نموذجها الاستقلالي من عدمه والمتصل في ثنائية التقديمة والرجعية في تحديد توجهات مختلف نظم هاته الدول؟
اختلاف الأفاق ووحدة البُنى
في عالم، كما أشرنا لا يزال يبحث له عن شكل في مرآة التاريخ، إلى درجة أن استعصى على صناع النظريات في العلاقات الدولية احتوائه نظريا صياغة وتأسيسا، أصبح من العبث الحديث عن الثنائية الخطابية النقدية التي نشأت بنشوء التجربة القطرية العربية التي تلت موجة الاستقلال أو كانت احدى أبرز نتاجاته، ما يكشف عن عمق التأثير العالمي أو العولمي اليوم في تحديد ملامح الوجود القطري والإقليمي في هذا العالم، فكل شيء بات سائلا وبالتالي قابلا للتكييف والتوظيف والتوصيف، لأن منظومة القيم لم تعد قاعدة لتحديد الأفاق في سياق الصراع الدولي الحالي.
إن هذا المآل الذي وُجد فيه العالم بأسره في نظرنا، قد أضر كثيرا بتجربة الدولة القطرية العربية التي لم تستطع أن تنفك عن أسئلة انبلاجها الأولى وتحسم صراعاتها في إطار النموذج الصحيح أو الأمثل المتعلق بمسارها، ومنها ما أشرنا إليه من جدلية التعيير البيني الرجعية والتقدمية، لتجد نفسها في سياق آخر من الانقلاب الكوني حيث صراع الهيمنة يخترق الأنساق والمجموعات الحضارية ويستحيل في شراسته إلى شيء لا يكاد يُفهم في أدبيات الاعلام ونظريات علوم السياسة اليوم.
وبعيدا عن خطاب المؤامرات الخارجية وتعليق الفاشل على مشاجب الغير، يمكن تحديد عناصر تأخر الدولة القطرية العربية في الاكتمال لتغدو الرقم المحترم في العلاقات الدولية، وأهمها على الاطلاق ثلاثة:
أزمة “سلطة” على رأس سلطة الأزمة
ثمة حضور قوي لبنية المجتمعات العربية في تشكلها القطري، حيث تفرض طبيعتها البدائية أو البدوية بوعيها وآليتها في انتظام سلطتها الخاصة، وهو ما يعوق مفهوم الدولة الحديث على ان يخترق رواسب البنيات القبلية والطائفية ويمضي باتجاه الاستواء في وعي الانسان العربي الحديث، هذا العجز البنيوي ذي الارتباط بالإشكالات السوسيو- سياسية هو الذي دفع قوة الغير في حسن الاستثمار فيه، بالتدخل المباشر وغير المباشر في نسق تطور المجتمعات السياسة العربية عبر بناء الدولة على أساس تلكم الإشكالات القبلية والمذهبية والطائفية والجهوية، ولم تسلم أي من القطريات العربية من هذا الأمر وبدرجات متفاوتة.
في تسريب جديد لاتصال هاتفي حدث بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ورئيس دولة الامارات وقتها الشيخ زايد بن سلطان، يتذرع هذا الأخير في عدم قدرته على الاستجابة لإحدى طلبات الزعيم المصري بأن “الانجليز حيشيلوني” أي سينقلبون عليه ويزيحوه من منصبه كرئيس لدولة الإمارات العربية المتحدة.
فطالما أن السلطة في الدولة القطرية العربية ليست نتاجا طبيعيا فيها ولم تتأتي عن مراحل من التقدم في الوعي المجتمعي السليم، فإنها ستظل عنصر إعاقة دائم في سبيل تحرر الانسان والمجتمع العربي ككل من أهم اشكالاته دولته الوجودية.
لا السيادة بلا سلطة سيدة !
طبعا يبرز تأثير إشكالية السلطة واللا طبيعي في انبثاقها، أو ما يبرز في ذلك الحد الكبير من سيادة البلد ككل، فبقدر ما تكون السلطة بأي بلد غير مستندة على قواعد شعبية حقيقية وناشئة من إرادة جمعية واعدة، بقدر ما تضعف سيادة الدولة ويسهل معها التلاعب بمصير الأمة ومصالحها.
هذا ما هو حاصل بشكل كلي لدى عديد القطريات العربية وعلى راسها الخليجية منها، وبأشكال متفاوتة في القطريات الأخرى، فيما يعرف بأزمة فقدان الأساس الديمقراطي لقيام السلطة فيها، وارتهان هاته الأخيرة إلى الخارجي توجيها وولاءً.
ولعل ما أشار إليه في أكثر من مناسبة في عهدته الأولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو يمنُّ على الخليجيين حماية بلده الدائمة لهم ككيانات مهددة بالانقراض إذا ما قررت الولايات المتحدة الأمريكية أن تتخلى عنها، وتسلمها بالتالي للافتراس الاقليمي الفارسي منه وغير الفارسي، إذا لم تدفع نظير ذلك “الجزية” بأرقام تتجاوز الخيال من منظور العلاقات الدولية الطبيعية في السياسة والاقتصاد.
عضال القضية الفلسطينية
لقد نجم عن هذا الفشل في معاودة التأسيس القطري العربي، رغم كل أمواجها الربيعية الشعبية والريعية الفوقية، على قواعد جديدة، تقفز به من معضلة قيام السلطة على قواعد بدائية، إلى قواعد حديثة، ومن انتفاء مبدأ سيادة فيها إلى حيث الامتلاك الذاتي للمصير، فشل كل وسائل التعامل مع القضية الفلسطينية وفق كل الأدبيات، سواء تلك الصادرة عن خطاب الأمة باعتبارها قضيتها المقدسة الأولى، أو تلك التي يترجمها الخطاب الدولي بوصفها قضية تتعلق وابتداءً وانتهاءً بتصفية الاستعمار.
فمخطئ من يعتقد أن استطالة أزمة القضية الفلسطينية وتقلباتها على مستويات التعامل الدبلوماسي والسياسي، لم تؤثر في تطور الدولة القطرية العربية، على صعيدي السلطة والسياسة، خلافا للوعي الشعبي والجماهيرية الثابت في النظر إليها وفق الموروثات بكل تفاصيلها الدينية والقومية.
فلا يظننَّ مثلا ظان أن ما صار إليه نظام أبو ظبي من توجه طاعن في عمق القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين غير ذي صلة بعنصر إشكالات السلطة والسيادة في ذلك البلد مذ تأسس سنة 1971، فالتحول الكبير الذي حدث بانهيار منظومة القيم التي كانت سائدة في عالم أثناء الحرب الباردة، والتي كان لها انعكاساتها على القضية الفلسطينية، اتضحت أكثر ما اتضحت في الدور الذي أخذت تلعبه نظم الدول التي تم تأسيسها على خلفية وظيفية خالصة من مثل الامارات وباقي دول الخليج.
إذن لا يستقيم التحليل للوضع الذي آلت الحالة القطرية العربية من ضعف وعدم قدرة على تقديم أفضل ما تقدمه من أداء في سياق التدافع والصراع الدوليين، من خلال ما تعيده من بسط الولاء للقوى التي تحكمت فيها تأسيسا وتوجيها، وهذا من خلال ما أظهرته الزيارة الحالية التي يقوم بها الرئيس الأمريكي إلى المنطقة، حيث تتطاير الأرقام المهولة على صكوك الحماية والأمريكية بحجة الاستثمار الاقتصادي، دون العودة إلى الظروف التي صاحبت قيامها ككيانات حديثة غير حداثية بل بدائية، على قواعد غير شعبية وإنما قبلية طائفية جهوية، صارت مع الوقت من شدة التماهي في الكيان تعكس الحقيقة الوحيدة لهذه الدول، حيث أصبحت السلطة المصطنعة لكيان المصطنع هي الدولة، وهي الشعب وهي السيادة، ودونها يضمحل الكيان ويتلاشى، حالة من الثبات في الوعي والممارسة للقطريات تجعل من الاستعمار القديم والاستدمار الحديث الذي يتدافع ويتصارع سواء للاحتفاظ أو الزيادة من مناطق نفوده في العالم، يحكم سيطرته على المنطقة.
وما تعيشه القضية الفلسطينية اليوم من انتكاسات وانكسرات، يعود بالضرورة لطبيعة هذا العالم العربي والإسلامي المتشكل من كيانات غير قادرة على أن تعيد تشكيل ذاتها بمعزل عن النموذج القديم، ولا تملك في هذا الصدد الإرادة التامة من لدن سُلطها مخفاة أن تفقد هذه الأخيرة عرشها على الماء الذي أجلسته عليه القوى الاستعمارية والاستعمالية، ذلك لأن تهديد ترامب المتكرر لهاته الدول بتركها دون حماية فريسة للغير من القوى الإقليمية، هو ليس تخويفا لشعوب هاته الدول، بقدر ما هو تخويف وتهديد للنظم التي سلطها عليها، كما لو أن لسان حاله يقول، أن لم تستجيبوا سأستبدل قوما غيركم، ومن ثمة تأتي الاستجابة مسرعة.
فالمشكل من خلال ما تقدم من تحليل يتعلق بحالة من عدم القدرة على مواكبة العصر في بعده السياسي بين تطور وتمرحل النظام الدولي بشتى عناصره والفواعل فيه، وحالة عربية متكلسة ومتجمدة لامتلاكها الريع المسكن للإرادة الشعوب وافتقادها للوعي المحرك للتاريخ بشأن طبيعة نظمها السياسة المتحكمة بسلطانها المطلق في الإرادة الداخلية والمستسلمة لإرادة الغير الذي فصلها قطريا وفصلها عن بعضها البعض.
بشير عمري