حلقة الحزب الراتب واللحمة الوطنية
الدكتور محمد بغداد تذكر التقارير الاستعمارية الفرنسية والروايات المتداولة، أن المنفيين الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة بعد ثورة 1871، من أبناء الشيخ الحداد والمقراني، أنهم وطول الرحلة من وهران إلى كاليدونيا الجديدة، التي دامت خمسة أشهر، كانوا يرفضون تناول اللحم، تجنبا لشبهة أنه لحم الخنزير، وأنهم كانوا يقرؤون الحزب الراتب، تضرعا إلى …

الدكتور محمد بغداد
تذكر التقارير الاستعمارية الفرنسية والروايات المتداولة، أن المنفيين الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة بعد ثورة 1871، من أبناء الشيخ الحداد والمقراني، أنهم وطول الرحلة من وهران إلى كاليدونيا الجديدة، التي دامت خمسة أشهر، كانوا يرفضون تناول اللحم، تجنبا لشبهة أنه لحم الخنزير، وأنهم كانوا يقرؤون الحزب الراتب، تضرعا إلى الله ليخفف عنهم قسوة القيود ومرارة النفي.
من القرارات الإستراتيجية للدولة الموحدية التي حكمت المغرب العربي والأندلس، في القرن السادس الهجري، التي كان من نجومها ابن رشد، على قراءة الحزب الراتب في المساجد، وتم تحديد ذلك مرتين في اليوم (قراءة حزب من القرآن بعد صلاة الصبح وحزب آخر بعد صلاة المغرب)، وقد استمر تطبيق هذا القرار طيلة القرون المتوالية، مما شكل وحدة دينية وثقافية ذات امتدادات اجتماعية مؤثرة في تمتين نسيج البنية المعيشية للمجتمع.
لقد أثبتت الكثير من الدراسات التاريخية المتخصصة، أن الحرص الشديد الذي أظهره المجتمع وقادته النخب، في المداومة على قراءة الحزب الراتب في المساجد والزوايا، كان من أهم الأسلحة التي واجهوا بها المشاريع الاستعمارية الفرنسية التي استهدفت تدمير الهوية الوطنية وتخريب النسيج الاجتماعي للجزائريين.
وقد كشفت العديد من الشهادات والمذكرات والوثائق، أن قراءة الحزب الراتب والمداومة عليه، كانت من السلوكيات المعهودة أثناء الثورة التحريرية المباركة، والتي كانت تمارس كلما سمحت ظروف الحرب، وأن الكثير من المجاهدين قد حفظوا القرآن أو أجزاء منه أثناء الثورة التحريرية، وتخلصوا من شرور الأمية التي كانوا يعانون منها، وهي الممارسة التي ورثتها الثورة التحريرية من جمعية العلماء المسلمين والطرق الصوفية في الزوايا.
ولعله لا يكون من قبيل الصدفة أن ينص القانون الأساسي للمسجد، الصادر في سنة 2013، على أن من واجبات الإمام الذي يتولى تسيير المسجد أن يضمن تنظيم حلقات الحزب الراتب، فالأمر يتعلق بممارسة واجبات يندمج فيها الفعل الديني بالسلوك الاجتماعي بالبعد الثقافي والقرار السياسي، الذي تكون محصلته النهائية توفير المناخ المناسب لبقاء المجتمع وضمان استمراره.
إن جدارة قراءة الحزب الراتب والمداومة عليه، لا تكمن في كونها وسيلة تعبدية تضمن حصول أجر قراءة القرآن وتوسيع مجالات حفظه وتعليمه لأغلبية الناس، ولكنها وسيلة استراتيجية تساهم بشكل فعال كما هو ثابت في الواقع وأكدته الدراسات وعززته شواهد التاريخ، أن من أقوى الدعائم وأهم الوسائل وأنجع السبل التي تقوّي التلاحم الاجتماعي وتفعيله وتوسيع الفعل الثقافي وتجسيده والتعبير عن مفهوم الجماعة وطاقة الأمن التي توفرها للأفراد والفئات.
إن المداومة على قراءة الحزب الراتب، من أفضل الوسائل التي تستخدم لمواجهة أمراض التفكك الاجتماعي والتقليل من شرور التنافر، ولها طاقة رهيبة في تحقيق التقارب الفردي وتعزيز روابط الانتماء للجماعة، وإزالة التنافر والتشاحن ومحاصرة الأنانية وكبح جماح الاتجاهات الانعزالية، التي أصبحت تهدد النسيج الاجتماعي.
إن المداومة على قراءة الحزب الراتب، من أهم الوظائف التي تقوم بها الدولة باعتبارها المعبرة عن الجماعة والساهرة على توفير حمايتها وضمان استمراريتها وتعزيز قوتها وتعميق تلاحمها، مما يجعل هذه الوظيفة متجاوزة لحدود مؤسسة بعينها أو جهاز محدد، كون المجتمع عبر تاريخه قد ابتكر من المناسبات لتوسيع نطاق تجسيد هذه الوظيفة، ومن براعته أنه ينوعها بين مناسبات الفرح والبهجة في مناطق ومناسبات الحزن والأقراح في مناطق أخرى، والمهم عنده تحقيق الاجتماع وتعزيز تلاحم الجماعة.
لكن ما يثير الدهشة والاستغراب اليوم، هو تخلي المؤسسات والهيئات المتصور أنها المعنية الأولى بتنفيذ هذه الوظيفة وتعففها عنها، والأكثر دهشة في الموضوع، ذلك التجاهل وأحيانا التبرير الساذج، لهجران هذه الوظيفة ذات الأبعاد (الدينية/ القانونية/ الثقافية/ الأخلاقية/ السياسية)، وترك المجال لممارسات أخرى وتشجيعها، وهي الممارسات التي أثبتت الأيام أنها متصادمة مع السيرورة التاريخية لنفسية وسلوكيات المجتمع، وقد ألحقت الكثير من الضرر بالجماعة الوطنية.
ومما يجد تسجيله من تجليات المشهد ذلك الإهمال الذي تقابل به النخب العلمائية (دينية وثقافية)، تجاهل هذه الوظيفة (الجيو استراتيجية)، وتجاهلها للأهمية التي تتضمنها هذه الوظيفة، وعدم تقدير المخاطر التي يشكلها غيابها عن الجماعة الوطنية، إلى درجة يمكن تصديق أن النخب العلمائية (الدينية والثقافية)، أنها (توافق /أو تشجع)، على حرمان المجتمع من أحد الوسائل المهمة التي يحقق بها انسجامه الجماعي ويوفر بها سبل الحماية مما يتعرض له من مخاطر الموجات الوافدة.