حين تهمل أسرة وتغفل أمة.. قراءة تربوية اجتماعية في مأساة الطفلة مروة بوغاشيش رحمها الله
مساهمة الأستاذة : المستشارة الأسرية: أسماء محمد براهيمي/ لم تكن الطفلة مروة بوغاشيش، رحمها الله، ضحية مجرم فقط، بل كانت ضحية مجتمع اختل توازنه التربوي، وضعف وعيه الوقائي، وترك فراغات قاتلة في مساحات التربية، والرقابة، والمحاسبة. هذه الجريمة التي هزّت قلوب الجزائريين، يجب ألا تمر كخبر مؤلم ثم يُنسى، بل يجب أن تكون صرخة يقظة …

مساهمة الأستاذة : المستشارة الأسرية: أسماء محمد براهيمي/
لم تكن الطفلة مروة بوغاشيش، رحمها الله، ضحية مجرم فقط، بل كانت ضحية مجتمع اختل توازنه التربوي، وضعف وعيه الوقائي، وترك فراغات قاتلة في مساحات التربية، والرقابة، والمحاسبة.
هذه الجريمة التي هزّت قلوب الجزائريين، يجب ألا تمر كخبر مؤلم ثم يُنسى، بل يجب أن تكون صرخة يقظة شاملة على مستوى الأسرة، والدولة، والمجتمع المدني، والضمير الجماعي.
أولًا: أسرتان… ومساران متعاكسان
في مجتمعنا اليوم، نرى نماذج من الأسر الراقية في وعيها، التي تربي أبناءها على القيم، وتحفظهم بالحوار والمراقبة، وتزرع فيهم المبادئ السامية والنضج النفسي. هذه الأسر تُخرّج أطفالًا ناجحين، محبوبين، متميزين في دراستهم وسلوكهم. لكن هؤلاء الأطفال أنفسهم يصبحون أهدافًا مغرية لمن لم يحظوا بتربية مماثلة.
على الضفة الأخرى، هناك أسر مهملة، يسودها العنف أو التفكك أو الجهل، تُهمل أطفالها عاطفيًا أو سلوكيًا، أو تتركهم للشارع والإعلام غير الهادف، فينشأ منهم أشخاص منحرفون اجتماعيًا، معتدون، مفترسون، ناقمون على من نجح في ما فشلوا فيه.
قال النبي ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، والتقصير في هذه الرعاية لا يؤذي صاحبه فقط، بل قد يؤذي أسرًا بريئة بأكملها.
ثانيًا: صمت اجتماعي يغذي الإجرام
من أخطر ما نعانيه كمجتمع وثقافة «الصمت عن المنكر». الجميع يعلم بوجود شخصيات منحرفة، أو أماكن مشبوهة، أو شبابٍ خطرين، لكن لا أحد يتدخل، لا الأهل، ولا الجيران، ولا الجهات المعنية، بدافع الخوف، أو «حب السلامة».
وهذا الصمت يفتح الباب لتوسع دوائر الجريمة. قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [النمل: 48]، وسكت عنهم الناس، حتى أهلك الله الجميع.
السكوت عن الشر خوفًا، ومشاركة غير مباشرة في تمدده.
ثالثًا: الإعلام غير الملتزم وغياب التأسيس القيمي
ساهمت بعض المسلسلات والأفلام ومواقع التواصل في تطبيع الانحراف، وجعل الشخص المذنب شخصية مثيرة، وعرضت العنف كحل، والانفلات كحرية. ومع غياب التربية الدينية الرصينة، لم يعد الطفل يعرف أن حرمة النفس أعظم من حرمة الكعبة.
قال النبي ﷺ: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق» (رواه النسائي).
لكن أين التأسيس القيمي في الإعلام والمدرسة والمسجد؟ بل إن بعض الأطفال لا يعرفون حتى معنى «الحرام» و»الجزاء».
رابعًا: غياب الوعي الوقائي
كثير من الأسر لا تدرك أهمية:
* تركيب الكاميرات المنزلية.
* تعليم الطفل مهارات الحذر من الغرباء.
* مراقبة علاقات الأبناء وسلوكهم الرقمي.
* التعاون مع الجيران في حماية المحيط.
الحماية ليست فقط بالقفل والمفتاح، بل بالفهم واليقظة، و«الوقاية خير من العلاج».
خامسًا: خطر مواقع التواصل وسذاجة النشر
ينشر البعض تفاصيل حياتهم، من سكنهم، إلى نمط معيشتهم، إلى صور أطفالهم، فيجعلون أنفسهم وأبناءهم محط أطماع المتربصين. حتى الأبناء قد ينشرون صورًا أو معلومات حساسة دون وعي، أو يُقلّدون مشاهد جريئة أو مثيرة للانتباه، فيدفعون الثمن.
قال النبي ﷺ: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، فكيف نكشف كل خصوصياتنا ونتساءل: «لماذا استهدفونا؟»
سادسًا: الخرافة حين تزهق الأرواح
انتشرت للأسف أفكار غريبة دخيلة عن ديننا، من قبيل السعي وراء أطفال بصفات معينة لأغراض السحر أو الشعوذة. وهذه ممارسات لا تمت للإسلام بصلة، لكنها تجد طريقها إلى بعض العقول الجاهلة.
قال تعالى: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ﴾، فهل نبقي مجتمعًا مسلمًا يقتل البراءة بحثًا عن خرافة؟!
خاتمة: الحل يبدأ من هنا
إننا بحاجة إلى:
* ثورة تربوية تبدأ من البيت وتستكمل في المدرسة والمسجد.
* وعي مجتمعي لا يسكت عن الانحراف بل يحاصره.
* رقابة ذكية على الأبناء بلا قسوة ولا غفلة.
* تجريم ثقافة العنف والانحلال الإعلامي.
* حضور مؤسسي قوي للأئمة والمربين والمصلحين.
رحم الله الطفلة مروة، وجعلها شفيعة لأهلها، وجعل دمها الطاهر صحوةً لكل أم وأب ومرب ومجتمع، قبل أن نودّع طفلًا آخر… دون أن نكون قد فعلنا شيئًا.