قراءة في حديث فانيسا بيلي عما بعد الدولة

في الخامس من جوان 2025، ظهرت الصحفية البريطانية فانيسا بيلي على شاشة قناة‪ CBN ‬لتقدم تصورا عميقا عن المشهد السوري بعد أكثر من عقد على اندلاع الحرب‪.‬‬‬ ما قدّمته لم يكن تقريرا خبريا تقليديا؛ كان تشريحا حضاريا لأمّة مفقودة، وأعادت بيلي طرح السؤال المرعب: هل ماتت الدولة السورية؟ أم أنّها فقط تحللت وخرج منها شبح …

يونيو 20, 2025 - 21:53
 0
قراءة في حديث فانيسا بيلي عما بعد الدولة

في الخامس من جوان 2025، ظهرت الصحفية البريطانية فانيسا بيلي على شاشة قناة‪ CBN ‬لتقدم تصورا عميقا عن المشهد السوري بعد أكثر من عقد على اندلاع الحرب‪.‬‬‬
ما قدّمته لم يكن تقريرا خبريا تقليديا؛ كان تشريحا حضاريا لأمّة مفقودة، وأعادت بيلي طرح السؤال المرعب: هل ماتت الدولة السورية؟ أم أنّها فقط تحللت وخرج منها شبح الجهاد بصيغته المعولمة؟
إن رؤية سوريا بلغة الجغرافيا الروحية، والتاريخ السياسي بوصفه مصيرا، يضع المشهد السوري في موقع خاص، ويخرج من كونه صراع سرديات، فالقراءة هي في انهيار المشروع القومي كما لم تُكتب من قبل، بل كما عايشها الناس، في الخوف، وفي التشظي، وفي انهيار المعنى‪.‬‬
الهزيمة كفراغ حضاري
عندما تحدّثت بيلي عن انهيار الدولة السورية، لم تقصد فقط السقوط الإداري أو الأمني، بل كانت تتحدث عن انكسار الرابط بين الإنسان والمكان، فما حدث هو “تفكك استراتيجي”، حيث لا يترك الانهيار فراغا عشوائيا بل منظّما، تشغله قوى ما دون الدولة، وفوق القانون، لكنها تملك سلطة فعلية‪.‬‬
هيئة تحرير الشام لم تكن مجرد فصيل مسلح، إنما كانت حسب وصف بيلي تجليا جديدا للهيبة الجهادية، حيث يلبس العنف رداء العدالة، والرئيس أحمد الشرع ليس فقط زعيما، بل رمزا لبديل “روحي” عن الدول، فالخطورة لا تكمن في السلاح، بل في الرمزية التي باتت تحكم سوريا، فهي رمز ديني، وفوق زمني، ويحمل المشروعية دون أن يطلبها‪.‬‬
هنا تنتقل بيلي من الحديث عن التنظيمات إلى الناس أنفسهم، فالمدنيون كما تصفهم يعيشون تحت ضغط الجماعات الجهادية، والخوف لم يعد فقط من القتل أو الاعتقال، بل من الاختفاء الثقافي ومن ضياع المعنى، وهو ما أسمته “التحوّط السلبي”، فالفرار ليس من العنف فقط، بل من فقدان الهوية المدنية‪.‬‬
في هذا السياق، تعود “السلطة الرمادية” لتشكل المشهد، فهي سلطة لا دولة فيها، لكنها تحكم بمنطق الفوقية والقداسة، فلا مؤسسات ولا تمثيل، فقط شريعة مطاطة وصوت ميكروفون الجمعة‪.‬‬
الفوضى التي تنظّم نفسها
أبرز ما أضاءت عليه بيلي كان توصيفها لحالة سوريا بأنها “فوضى منظّمة”، فهنا ليس هناك غياب للنظام، بل حالة بديلة تستخدم أدوات النظام (مدارس، خطب، فتاوى)، ولكن لإعادة إنتاج مشروع مغاير كليا، فهو ديني وليس مدني، وفوقي وليس شعبي‪.‬‬
هذه الحالة هي أخطر مراحل ما بعد الدولة لأن الفوضى حين تصبح منهجا تولّد سلطة جديدة؛ تغتال حتى فكرة الدولة، فالمساجد تتحول من أماكن عبادة إلى مراكز حكم، ومدارس إيديولوجية، ومساحات تأطير ثقافي مغلق‪.‬‬
عمليا الدولة ليست مؤسسات فقط، بل جسد ثقافي روحي، وحين تُستبدل بـ ”جماعة جهادية”، لا يحدث فقط تحوّل فيمن يحكم، بل في كيف نفهم الحكم نفسه، وفي حديث بيلي، يظهر ذلك واضحا، فلا دستور، ولا مشروع تعليم وطني، ولا تمثيل شعبي، بل هناك فقط سلطة فوقية تصوغ هوية فئوية باللهجة، بالعَلم، بالعَقد، وهذا لا يصنع وطنا بل محميات طائفية ومناطقية مؤقتة، فتختفي سوريا ويظهر وطن بعدد الجماعات. الخوف كآلية حكم
في أكثر لحظات لقاء وجعا، تكشف بيلي الوجه الإنساني للانهيار، فالخوف الذي لا ينتهي ليس مجرد حالة نفسية، بل أداة سياسية، فالجماعة الحاكمة لا تحتاج للرضا الشعبي، بل لسيطرة وجدانية حيث منطق “نحن نرعاكم لأننا نخيفكم أكثر من الآخر‪”.‬‬
فالشريعة تصبح سلاحا لا لتربية الضمير، بل لترويض الحركات، وتصبح “الهيبة الجهادية” مانعا لأي محاولة تفكير جماعي. وكأن الجماعة تقول: “أنتم تعيشون لأننا لم نحكم بأسوأ مما نحكم الآن‪”.‬‬
نهاية القومية، بداية التفكك النخبوي
النقطة الأخيرة التي ختمت بها بيلي لقاءها تتلخص بأن لا أحد يريد بناء دولة، فليس هناك مشروع وطني بديل، بل فقط جماعات “تشرّع لنفسها”، وتتحرك على خطوط دعم وتمويل وتمثيل خارجي، وهنا لا خلاص من الدولة القديمة إلا بهدم فكرة الدولة كليا، فلم تعد سوريا “دولة قومية”، بل مختبر نخبوي لتجارب دينية عابرة، ويصبح السوريون رهائن لأفكار لم يولدوها، ولم يختاروها، لكنهم يدفعون ثمنها كل يوم‪.‬‬
سوريا لم تسقط كنظام فقط، بل كأمة، ولم يعد هناك عقد اجتماعي، ولا مكان لصوت جماعي، وفقط جماعات تفرض “هيبتها” على فراغ ساعدها العالم كله على صناعته، ولكن، في قلب هذه الفوضى، ربما تكمن فرصة إذا تمت إعادة تعريف الإنسان السوري ككائن مشترك، لا كعضو في جماعة، ويمكن أن نبدأ من جديد‪.‬‬
والسؤال مفتوح: هل يمكن أن تولد سوريا ثانية؟ لا من ترابها الجغرافي، بل من ذاكرتها الجماعية؟

سناء الشامي