الشيخ محمد طه سُكَّر..

أ.عبد العزيز بن السايب/ الشام عامرة بالخير..ذروته علماؤها..في متنوع الفنون..وصَدرُها إقراء القرآن الكريم..إتقانا وضبطا، وسندا وطريقا.. من هؤلاء سيدي الشيخ سُكَّر -رحمة الله تعالى عليه – وهو محمد طه سُكَّر..دمشقيُّ الولادةِ والنشأةِ والوفاةِ.. تلقى على كبار علماء دمشق.. كالشيخ المقرئ الفقيه اللغوي محمود فايز الدِّيْرعَطَانِي، والشيخ الفقيه محمد صالح العَقَّاد، الشَّافِعِيُّ الصغيرُ، والشيخ المقرئ الفقيه …

سبتمبر 17, 2025 - 17:58
 0
الشيخ محمد طه سُكَّر..

أ.عبد العزيز بن السايب/

الشام عامرة بالخير..ذروته علماؤها..في متنوع الفنون..وصَدرُها إقراء القرآن الكريم..إتقانا وضبطا، وسندا وطريقا..
من هؤلاء سيدي الشيخ سُكَّر -رحمة الله تعالى عليه – وهو محمد طه سُكَّر..دمشقيُّ الولادةِ والنشأةِ والوفاةِ.. تلقى على كبار علماء دمشق.. كالشيخ المقرئ الفقيه اللغوي محمود فايز الدِّيْرعَطَانِي، والشيخ الفقيه محمد صالح العَقَّاد، الشَّافِعِيُّ الصغيرُ، والشيخ المقرئ الفقيه عبد الوهاب دبس وزيت، أبو حنفية الصغير، رحمة الله تعالى عليهم.
لم أكن على معرفة به إلا في عامي الثاني..أثناء جلوسي بحي ركن الدين في «جامع الرفاعي»..الذي سُمي فيما بعد «جامع الملا رمضان»..إذ دخل رجل غير طويل القامة..يرتدي ثيابا عادية، وعلى رأسه طاقية عادية.. بلحية خفيفة..لكن الملفت تهافت أهل السجد شبابا وشِيبًا عليه.. مُقَبِّلِين يديه..
سألت صديقي الحبيب «عبد الحق ميحي» عنه، فهو يسكن هناك.. فقال لي: هذا شيخنا الشيخ سكر.. ألا تعرفه.. ربي يغفر لك.. هذا من كبار قُرَّاء الشام.. فهززت رأسي متعجبا..
هذه أوَّلُ رُؤية.. أما أوَّلُ مجالسة وهي الوحيدة في الواقع ففي زيارة المعايدة.. فقد ذهبت رفقة أخي الحبيب محمد بوركاب لمعايدة الشيخ سكر فهو من شيوخه.. فاستقبلنا في بيته بالصالحية.. وما زالت تلك الزيارة مطبوعة في وجداني.. بيت عربي فسيح.. أدلفنا من أرض الديار العريضة إلى قاعة استقبال على الطراز الشامي.. ضيَّفنا الشيخ.. ومما تناولته قطعة من «المعْمُول» بالجوز..يا لها من حبة طيبة «بنينة».. منعني الحياء من تناول قطعة ثانية وثالثة.. لجودتها.. وعرض علينا الشيخ الشاي أو القهوة.. ولم أكن وقتها من عشاق القهوة، لذلك احتسينا الشاي الأحمر..
يا لها من جلسة هادئة ساكنة.. كهُدوء الشيخ وسُكونه.. خرجتُ والسعادة تغمرني، والفرحة تَسري في ذَرَّات جسدي، والخشوع يُغَلِّفُ مشاعري.. حتى وأنا أكتب الآن هذه الكلمات عاودني ذلك الشعور بالانشراح وتلك الراحة والرَوْح.. سِرٌّ لا أملك تفسيره أو نقله..فالرجل مُباركٌ فيما أحسب..تواضعٌ مع هيبة، سكوتٌ مع لُطف، سكينةٌ مع وقار، حسن الهيئة، أبيض الوجه نَيِّرُهُ.. سُكَّر..
لم أشرف بالقراءة عليه أو حضور مجالس إقرائه.. لكن رزقني الله تعالى سماع تلاوته «في مرات قليلة تُعَدُّ على أصابع اليد خلفه في صلاة التراويح في حي ركن الدين بجامع محيي الدين ابن عربي.. رغم طول المدة، فالشيخ يأخذ راحته في التلاوة.. لكنه يَأْسِرُكَ بإتقانِهِ، وصفاءِ الصوتِ، ووضوحِ المخارجِ.. بلا أنغام ولا تكلِّف.. رحمة الله عليه..»..
يَؤمُ التراويحَ عنده أهلُ الحي وأهلُ الرغبة في الإتقان.. أما أمثال كاتب هذه السطور من ذوي الميول للأنغام والتطريب.. فكان حظهم معه قليل.. خصوصا مع بُعد مسافة سكني ومسجده.. فكنت في حي التضامن وهو في ركن الدين.. فأحتاج إلى حافلتين للوصول..
والتدقيقُ في النطق دأبُ الشيخ ليس أثناء القراءة فقط، بل حتى في الحديث العابر.. ولم نضبط كلمة «موريتانيا» إلا منه، فكان لساننا يرطنها بالطاء «موريطانيا»، فإذا سمعها الشيخ سكر يقول: لا.. يا ابني..مُورِيتَا..تَا..تَا..تَانيا..بالتاء وليس بالطاء..
وإذا تعرَّف على شخص فقال له: اسمي «عبد الآدِر».. فأهل دمشق يقلبون القاف ألفا؛ يصحح له الشيخ: «عبد القادِر».. أو «عبد اللَّى» فيقول له «عبد الله»..
يبدأ مجلس الإقراء بعد الصبح..ثم يذهب إلى محل تجارته في سوق الخياطين، وتجارته في مجال النسيج والخياطة..والحصة الثانية بعد المغرب إلى ما بعد العشاء..وربما أذن لبعض الطلاب في الدكان والبيت..
كان يقصده الطلاب الجزائريون وغيرهم حديثو العهد بالشام.. للقراءة عليه لما سمعوا من إتقانه، والشيخ لا يرد أحدا..واشتهر أنه «متشدد» و»صعب»..والحقيقة أن الشيخ طريقته التدقيق بكل الأحكام منذ البداية، فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلاّ ويُنبه عليها. بينما غيرُه من القراء يُخفف في البداية، ويزيد التدقيق مع مزيد الجلسات شيئا فشيئا.. فهؤلاء من باب التدرج والمرحلية مع الطالب..
والشيخ سكر من باب أمانة التلقي، فهكذا تلقاها وهكذا يؤديها، ولا يدري هل يعود إليه هذا الذي قرأ الآن، فإذا لم يصحح له ربما توهم أن قراءته صحيحة..وينقلها على أساس ذلك.. من هذا الباب لا يفرِّق الشيخ بين عربي أو أعجمي.. بل حتى مع أولاد شيوخه..
لذلك حدث بين الشيخ وبين الطلاب الجزائريين المبتدئين قصص وطرائف..
أخبرني أحدهم أنه مكث في سورة الفاتحة وحدها شهرين كاملين.. ناهيك عن التعوذ والبسملة في أولها..
وآخر جاء جديدا..فبعد أيام قليلة من العرض على الشيخ..إذا به يتضايق من تدقيق الشيخ في كل شيء..الحفظ..المخارج..الأحكام..وفي لحظة غضب نظر إلى الشيخ شزرا مُقَطَّبًا وخاطب الشيخ بشدَّةٍ، بلهجتنا الجزائرية: «يا الشيخ.. وَاشْ بِيْكْ.. رَاكْ غِيرْ تتَبَّعْ فِيَا مِلِّي بدِيتْ نَقْرَا عندك.. وَاشْ كَشْمَا بِيْنَاتْنَا كاشْ حْسِيفَة».أي: «ماذا بك أيها الشيخ..منذ بدأت القراءة عندك وأنت تتعمد تتبعي في أخطائي، هل بيننا من ثأر»..
لم يفهم الشيخ كلام ذلك الطالب، فسأله: شُو يا ابني..
فرد عليه ذلك الطالب مغاضبا بلهجتنا أيضا: «وَالُو..وَالُو..»، أي: «لا شيء..لا شيء»..
وآخرُ كان في سورة الفجر.. والشيخ كعادته يُدَقِّقُ في كلّ شيء يتعلق بالقراءة.. وذلك الطالب ترتفع درجة حرارته ويزداد توتره..فلما بلغ قوله تعالى: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)..مِنْ فَقْدِ الطالب التركيز قرأ الآية غيرَ متعمد: (فصب عليكَ ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد).. فانحرف معه «عليهم» إلى «عليك».. فانتفض الشيخ جزعا.. قائلا:.. ليش يا ابني.. شو سَاوِيت لك..
هذه بعض الطرائف.. طبعا لا تفيد التعميم على كل الطلاب.. لكنها تُبرز حجم معاناة شيوخ الإقراء..
في الواقع لم يصبر مع الشيخ إلا القليل الذين طَرَّقُوا ألسنتهم وطَوَّعُوا قراءتهم عند غيره.. أو لهم الرغبة الكافية والصبر والتصميم..
ولقد خَلَفَ الشيخَ في هذه الطريقة عددٌ من طلابه.. منهم تلميذه وصهره زوج ابنته سيدي الشيخ الطبيب سامر النَّص حفظه الله تعالى.
جزى اللهُ كل خير علماء الشام، وأهلها، فلهم فضلٌ فائقٌ في التعليم والتدريس، والتهذيب لسلوكنا، والتليين لطباعنا، والتحسين من أخلاقنا..وتَقَبَّلَ الله تعالى منهم صبرَهم وعلاجَهم للكثير من عِلَلِنَا وأمراضنا.. غِلاظتنا وغُرورنا وجُرأتنا وتَسَرُّعَنا..
غادر سيدي الشيخ سُكَّر هذه الحياة قبل 17 سنة في مثل هذا الأسبوع.. يوم 13/08/2008.. وصلَّى عليه بالجامع الأموي صديقُهُ سيدي الشيخ أبو الحسن الكردي.. فرحمة الله تعالى ورضوانه عليهم وعلى كل الشيوخ..