المظهرية…. بريق يخدع العيون لا القلوب

د. بن زموري محمد / الانبهار بالمظاهر ظاهرة قديمة متجددة، تسلّلت إلى نفوس البشر منذ أزمان بعيدة، لكنها في عصرنا هذا صارت أكثر قوة وخطورة بفعل ما وفرته التكنولوجيا ووسائل الإعلام من قدرة على تضخيم الصورة وتلميع السطح. هذه الظاهرة تجعل الأعين تحكم على الأشياء من قشورها لا من جوهرها، وعلى الأشخاص من هيئاتهم لا …

سبتمبر 17, 2025 - 17:58
 0
المظهرية…. بريق يخدع العيون لا القلوب

د. بن زموري محمد /

الانبهار بالمظاهر ظاهرة قديمة متجددة، تسلّلت إلى نفوس البشر منذ أزمان بعيدة، لكنها في عصرنا هذا صارت أكثر قوة وخطورة بفعل ما وفرته التكنولوجيا ووسائل الإعلام من قدرة على تضخيم الصورة وتلميع السطح. هذه الظاهرة تجعل الأعين تحكم على الأشياء من قشورها لا من جوهرها، وعلى الأشخاص من هيئاتهم لا من حقائقهم. وحين تتحول المظاهر إلى معيار، يختل ميزان القيم، فتصبح الهيبة في الثوب الفاخر، والمكانة في المركب الفخم، والقيمة في زخرف القول لا في صدقه، فيتراجع تقدير الأخلاق والعلم والعمل الجاد، ويُقصى أصحاب الكفاءة لصالح من يجيد العروض الشكلية.
إن الانبهار بالمظاهر لا يقف أثره عند حدود السلوك الفردي، بل يتجاوز ذلك ليترك بصماته على أخلاق الأمة كلها. فحين تنغمس المجتمعات في سباق التباهي بالمظاهر، تتغيّر طريقة تقييمها للنجاح، فتصبح الشهرة أهم من التأثير الحقيقي، والظهور أكثر قيمة من العمل، وتُقاس المنزلة بما تملكه من زينة لا بما تقدمه من نفع. وهذا بدوره يُضعف روح الإخلاص في النفوس، ويزيد من النزعة الأنانية وحب التفاخر، فتتحوّل العلاقات بين الناس إلى روابط هشة تقوم على الانطباعات السطحية بدل الصدق والوفاء.
ومن الناحية العملية، هذا الانبهار ينعكس على المعاملات اليومية، إذ قد يُقدَّم شخص على آخر في وظيفة أو منصب بناءً على مظهره الخارجي أو مكانته الاجتماعية، لا على قدرته وكفاءته. وقد يُحترم المتأنق في ملبسه أكثر من الأمين في عمله، ويُقاس النجاح بالمقتنيات والصور المنشورة، لا بالإنجازات الملموسة. وهنا تكمن الخطورة، لأن مثل هذا السلوك يزرع التفاوت غير العادل، ويغرس في النفوس شعورًا بالمرارة والحسد، ويجعل المجتمع يعيش في دوامة من التقليد والاستهلاك المفرط.

السوشيال ميديا… مسرح المظاهر
في زمن شبكات التواصل الاجتماعي، تضاعف تأثير هذه الظاهرة، إذ صار بإمكان أي شخص أن يصنع لنفسه صورة براقة أمام المتابعين، حتى ولو كانت منقطعة الصلة عن حياته الحقيقية. أصبح الكثير يقيسون قيمتهم بعدد الإعجابات والمشاهدات، ويتنافسون على عرض تفاصيل حياتهم بشكل مبالغ فيه لإبهار الآخرين. الصور المعدلة والفلاتر تخفي العيوب، والمحتوى المنتقى بعناية يعطي انطباعًا بالكمال، بينما الواقع قد يكون مليئًا بالتحديات والنقص.
لقد تحولت السوشيال ميديا إلى «سوق للمظاهر» يتسابق فيه الناس على عرض أجمل ما عندهم وربما ما ليس عندهم، فزاد الشعور بالمقارنة السلبية، وأصاب النفوس بالقلق وعدم الرضا عن الذات. هذا الانبهار الافتراضي يستهلك الوقت والطاقة، ويصرف الأنظار عن القيم الحقيقية، حتى بات البعض يعيش ليُرى لا ليعمل أو ينجز.

وعي السلف بخطر القشور
وقد أدرك سلف الأمة هذه الحقيقة، فحرصوا على تربية النفوس على النظر إلى الحقائق لا إلى القشور. ومن أروع الأمثلة ما يُروى عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله، إذ قَدِم رجل من المشرق إلى المدينة ليسمع الحديث، ووافق دخوله يوم أُدخل في المدينة فيل لأول مرة، فهرع الناس جميعًا لرؤيته، وبقي الإمام مالك في مجلسه يطلب العلم. فلما سُئل: «أما تذهب لترى الفيل؟» قال: «إنما جئت لأرى العلم وأطلب ما ينفعني، أما الفيل فيراه في المشرق كل يوم من أراد».
إن هذه الكلمات القليلة تلخص فلسفة كاملة في ترتيب الأولويات، وتغرس في النفس أن ما ينفع العقل والروح أحق بالسعي من أي مشهد عابر، سواء كان في شوارع المدينة القديمة أو على شاشات الهواتف الذكية.

خاتمة
إن البريق قد يخدع العين، لكنه لا يبني أمة. والمظاهر قد تبهج للحظة، لكنها لا تصنع حضارة. الأمة التي تعلي الجوهر على القشور، وتربّي أبناءها على تقدير الحقائق قبل الصور، هي الأمة التي تستطيع مواجهة رياح المظاهر وأوهام السوشيال ميديا، وتحفظ أصالتها وقيمها في زمن يغلب فيه الشكل على المضمون.