وكيل الأوقاف بين الأمس واليوم: مسؤوليات جسام وأجر زهيد

د. بن زموري محمد/ وكيل الأوقاف منصب إداري وديني يحمل في طياته إرثًا عظيمًا من التاريخ الإسلامي وتجارب الأمم في إدارة شؤون الوقف، وهو من المناصب التي لم تنل بعدُ ما تستحقه من اهتمام علمي واجتماعي رغم ضخامة المهام التي يؤديها وعمق أثرها في حياة الناس. فمنذ العهد العثماني، كان الوقف مؤسسة قائمة بذاتها، تشكل …

أكتوبر 6, 2025 - 12:35
 0
وكيل الأوقاف بين الأمس واليوم: مسؤوليات جسام وأجر زهيد

د. بن زموري محمد/

وكيل الأوقاف منصب إداري وديني يحمل في طياته إرثًا عظيمًا من التاريخ الإسلامي وتجارب الأمم في إدارة شؤون الوقف، وهو من المناصب التي لم تنل بعدُ ما تستحقه من اهتمام علمي واجتماعي رغم ضخامة المهام التي يؤديها وعمق أثرها في حياة الناس. فمنذ العهد العثماني، كان الوقف مؤسسة قائمة بذاتها، تشكل العمود الفقري للأنشطة الدينية والاجتماعية والتعليمية، وكان وكيل الأوقاف هو اليد المنفذة التي تضمن بقاء هذه المؤسسة حيّة وفاعلة. في ذلك الزمن، كانت الأوقاف تموّل المساجد والزوايا والكتاتيب، وتضمن أجور الأئمة والمؤذنين والمعلمين، وتؤمّن للفقراء والمحتاجين عيشًا كريمًا، وتعيل الأرامل واليتامى، وتمول خدمات عامة مثل بناء الطرق والجسور والحمامات. وكان وكيل الأوقاف يقف على رأس هذه المنظومة، يراقب الأملاك الوقفية الزراعية والتجارية، ويضمن توزيع عوائدها وفق شروط الواقفين، ويتابع الصيانة المستمرة للمساجد والمدارس، ويمنع أي تعدٍّ على الأملاك الوقفية. ومع أن مسؤوليته جسيمة، فإن أجره كان زهيدًا، يتقاضاه من ريع الوقف، مما جعله يؤدي عمله بروح الخدمة والالتزام الديني أكثر من الدافع المادي، إذ إن المجتمع العثماني كان ينظر إليه باعتباره “أمين مال الله” لا مجرد موظف إداري.
غير أن الظروف تغيرت، والجزائر المستقلة وجدت نفسها أمام رصيد وقفي ضخم موزع عبر مختلف الولايات، لكنه تعرض للإهمال أو الاستيلاء في فترات سابقة، خاصة مع التحولات الكبرى التي شهدها القرن العشرون. اليوم أصبح وكيل الأوقاف في الجزائر المعاصرة يضطلع بمهام أكبر وأعقد، حيث لم يعد عمله مقتصرًا على جمع المداخيل أو مراقبة عقارات بسيطة، بل صار في قلب شبكة من العلاقات القانونية والإدارية التي تتطلب منه خبرة عالية وتفرغًا كاملًا. فهو من جهة يتابع الأملاك الوقفية الكثيرة، التي تشمل العقارات السكنية والتجارية والأراضي الزراعية والمحلات، ويسهر على تحصيل مداخيلها وتوجيهها إلى الوجهات الشرعية، ومن جهة ثانية أصبح يتعامل مع ملفات ذات طابع قانوني دقيق. فهو يمثل مصالح الأوقاف أمام مختلف الهيئات الإدارية والمحافظات العقارية، ويتابع تسجيل وتحيين الأملاك الوقفية في السجلات الرسمية، ويخوض معارك قانونية مع أملاك الدولة أو مع الخواص الذين ينازعون الوقف في ملكية بعض العقارات. وفي كثير من الأحيان، يجد نفسه طرفًا أساسيًا في قضايا مطروحة على المحاكم المدنية والإدارية، سواء تلك المتعلقة بالمنازعات العقارية أو القضايا الجزائية المرتبطة بالاعتداء على الأملاك الوقفية أو التصرف فيها دون وجه حق.
وإذا كان العثمانيون قد وفروا لوكيل الأوقاف بيئة اجتماعية تحترم الوقف وتقدّس أمواله، فإن وكيل الأوقاف اليوم يواجه واقعًا مختلفًا تمامًا، إذ كثيرًا ما يتعرض لضغوطات من أطراف نافذة، أو يضطر إلى متابعة دعاوى معقدة تتطلب شهورًا وسنوات من الجهد المتواصل. أضف إلى ذلك أنه مطالب بالتمثيل القانوني للقطاع أمام الجهات القضائية والإدارية، بل وحتى أمام اللجان المكلفة بالتسويات العقارية. وهو أيضًا مسؤول عن الملفات الوظيفية المرتبطة بموظفي القطاع، إذ يتابع المنازعات التي تطرحها هذه الفئة أمام المحاكم الإدارية أو لجان الطعن، ما يجعله في تماس مباشر مع القضايا الوظيفية والجزائية والإدارية في آن واحد. بالإضافة الى متابعة بناء المساجد والمدارس القرآنية من أول وثيقة وهي عقد الوقف أو وثيقة التنازل الاداري الى غاية استلامها على مستوى ولايته.
إلى جانب ذلك، يضطلع وكيل الأوقاف بمهام تتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية، حيث قد يطلب منه متابعة التنفيذ بالقوة العمومية لاسترجاع عقارات وقفية مغتصبة أو محلات مؤجرة امتنع أصحابها عن دفع المستحقات، وهي عملية شاقة تحمل في طياتها مواجهات اجتماعية قد تكون معقدة. وهنا نجد أن منصبه يتداخل مع مهام أعوان التنفيذ القضائي وضباط الشرطة القضائية، ما يزيد من عبء المسؤولية. كما أن دوره لا يقتصر على الجانب القضائي والإداري، بل يشمل متابعة تنظيم وتوزيع الزكاة وفق الأطر القانونية، باعتباره جزءًا من المنظومة المالية الشرعية التي تشرف عليها وزارة الشؤون الدينية. فهو يتلقى التبرعات، ويسهر على ضبط حساباتها، ويضمن وصولها إلى الفئات المستحقة، وهو عمل يحتاج إلى نزاهة قصوى ومتابعة دقيقة لتفادي أي شبهة في التسيير.
إن المقارنة بين الماضي والحاضر تكشف عن حقيقة ثابتة، وهي أن وكيل الأوقاف عبر التاريخ كان ينهض بأمانة ثقيلة، لكن ما يميز المرحلة المعاصرة هو حجم التعقيدات القانونية والبيروقراطية. ففي العهد العثماني، كان يتعامل مع مجتمع أكثر انسجامًا واحترامًا للأعراف الدينية، أما اليوم فهو في مواجهة منظومة قانونية مزدوجة تجمع بين أحكام الوقف الشرعي والقوانين الوضعية، وتستلزم معرفة عميقة بالقانون المدني وقانون الإجراءات المدنية والإدارية والقانون العقاري، فضلًا عن المراسيم والقرارات التنظيمية الصادرة عن وزارة الشؤون الدينية ووزارة المالية. بل إن قوانين خاصة مثل آخرها القانون 25/06 المتعلق بالأوقاف في الجزائر، تضع على عاتق الوكيل مسؤوليات إضافية في إثبات الملكية الوقفية، وحماية الأعيان، وتنمية العوائد.
ومع ذلك كله، يبقى الأجر المخصص له ضعيفًا للغاية مقارنة بما يتحمله من مهام. إن إدارة أملاك بمليارات الدينارات، ومتابعة قضايا تستنزف سنوات، والوقوف أمام المحاكم واللجان، والتعرض لضغوط اجتماعية وقانونية، كلها مهام تستوجب أجرًا كريمًا يضمن له الاستقرار النفسي والمعيشي. غير أن الواقع يشير إلى فجوة كبيرة بين حجم المسؤولية والمقابل المادي، ما يجعل الكثير من الوكلاء يؤدون عملهم في ظروف صعبة، ويشعرون بنوع من التهميش وعدم الاعتراف بجهودهم.
إن النهوض بهذا المنصب يتطلب رؤية إصلاحية شاملة، تبدأ أولًا بإعادة الاعتبار المادي عبر تحسين الأجور ومنح الامتيازات، ثم التكوين المستمر في المجالات القانونية والإدارية والمالية، ليكون الوكيل على دراية كاملة بكل تفاصيل النزاعات والإجراءات. كما ينبغي تعزيز الرقمنة في إدارة الأوقاف، من خلال إنشاء منصات إلكترونية لتسجيل الأملاك، ومتابعة المداخيل، وإصدار التقارير، بما يحقق الشفافية والفعالية. كذلك لا بد من تمكين الوكيل قانونيًا ومنحه صلاحيات أوسع، كتلك المرتبطة بالتمثيل القضائي المباشر، وإعطائه آليات تنفيذ أسرع لحماية الأملاك الوقفية بعد منحه الضبطية القضائية. والأهم من ذلك أن يتم إبراز قيمة هذا المنصب اجتماعيًا ودينيًا، حتى يُنظر إليه كأمين على أمانة الأمة، لا كموظف بسيط في جهاز إداري.
إن وكيل الأوقاف بين الأمس واليوم يجسد استمرارية مؤسسة الوقف نفسها، فهو شاهد على ضخامة الأمانة وثقل المسؤولية وزهادة الأجر. وإذا كان العثمانيون قد ورّثونا هذا المنصب في إطار منظومة شرعية متماسكة، فإن الجزائر اليوم مطالبة بأن تطوره وتمنحه المكانة التي يستحقها، باعتباره صمام أمان يحفظ أموال الوقف ويضمن استدامة عطائه للأجيال القادمة. ومن دون العناية به، فإن مؤسسة الوقف قد تفقد أحد أهم أعمدتها، ويضيع بذلك جزء من الإرث الروحي والاقتصادي للأمة.