رسالة بمناسبة الدخول الاجتماعي
عبد الفتاح داودي */ إنّ الدخول المدرسي ليس مجرّد يوم في دفتر الزمان، ولا رقمًا في رزنامة الأعيان، بل هو ميلاد جديد للأمل، وتجديد للعهد مع رسالة العلم والعمل. إنه حدث وطني وعالمي، تتجدد فيه مسيرة أمة، وتُستأنف فيه رسالة حضارة، تلك الحضارة التي انطلقت من مكة المكرمة يوم أشرق نور الوحي، وارتجف كسرى في …

عبد الفتاح داودي */
إنّ الدخول المدرسي ليس مجرّد يوم في دفتر الزمان، ولا رقمًا في رزنامة الأعيان، بل هو ميلاد جديد للأمل، وتجديد للعهد مع رسالة العلم والعمل. إنه حدث وطني وعالمي، تتجدد فيه مسيرة أمة، وتُستأنف فيه رسالة حضارة، تلك الحضارة التي انطلقت من مكة المكرمة يوم أشرق نور الوحي، وارتجف كسرى في عرشه، وتهاوت شرفات فارس، فيما كانت أوروبا ترزح في ليلٍ طويل من الجهل والظلام.
هناك، انطلق النداء الخالد: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ليعلن ميلاد إنسان جديد، وصناعة تاريخ جديد، وتأسيس حضارة جعلت من المدرسة محرابًا للعلم، ومن الكتاب جسرًا للنور، ومن المعلم وارثًا للأنبياء.
أيها الآباء والأمهات،
أنتم المدرسة الأولى، والجذر الذي منه ينبت الغرس، فكونوا لأبنائكم عونًا في طريق العلم، وازرعوا في قلوبهم محبة الدرس قبل دفاترهم، ونور الخلق قبل كتبهم،
﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾.
أيها التلاميذ والطلبة،
أنتم أمل الأمة وذخيرة الغد، كما كان ابن خلدون يوم خطّ مقدمته، وابن الهيثم يوم أبدع في بصيرته، والجزري يوم صنع آلاته؛ فليكن دخولكم هذا العام دخول عزيمة وبصيرة، لا عادة وأسطرا بلا معنى. واعلموا أنّ طريق العلم طريق الجنة: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة».
أيها المعلمون والأساتذة،
أنتم ورثة الأنبياء، وحملة مشاعل الضياء. أنتم الذين صنعتم رجالًا قادوا حضارات، وكتبوا علومًا أضاءت للبشرية في طبها وهندستها وفلكها. فكونوا قدوة في أخلاقكم كما أنتم منارة في علمكم، وازرعوا في نفوس أبنائنا حبّ البحث، لا رهبة الامتحان، وشوق الإبداع، لا رتابة التكرار.
أيها المسؤولون وأصحاب القرار،
التعليم ليس بندًا في الميزانية، بل هو أعظم استثمار في الإنسان. ألم يقل الله تعالى:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾؟ فاجعلوه أولى الأولويات، فهو مفتاح النهضة، وسرّ التمكين، وعماد كل بناء متين.
أيها الإعلاميون وصناع الرأي،
إنّ الكلمة قد تُشعل نارًا أو تُوقد نورًا، فاجعلوها أداة بناء لا معول هدم، وسلّطوا الضوء على النماذج المشرقة، كما فعلت حضارتنا يوم جعلت من العلماء نجومًا تُقتدى، لا أسماء تُنسى.
أيها المستثمرون وأرباب المال،
أنفقوا في سبيل العلم، فهو الصدقة الجارية التي لا تنقطع، وادعموا المخابر والمعاهد، فإن الحضارة لا تُبنى بالحجارة والحديد فقط، بل تُبنى بالعقول النيّرة والقلوب المؤمنة.
فلنجعل من هذا الدخول موسمًا للوحدة لا الفرقة، وللعمل لا التراخي، وللبناء لا الشكوى. فنجاح المدرسة نجاح للوطن، وإحياء العلم إحياء للأمة، وما الأمة إلا مدرسة كبرى تُخرِّج أجيالها جيلًا بعد جيل.
ومن أعان على تعليم إنسان، فقد أسّس نهضة، وبنى حضارة، وأضاء طريق أمة بأسرها.
«إن الواجب على الجميع، أفرادًا ومؤسسات، أن ينهضوا بمسؤولياتهم في بناء الإنسان وإعمار الأوطان، عبر الصدق في العمل، والإخلاص في النية، والتكامل في الجهود؛ فبذلك تُصان الأمانة وتُصاغ النهضة. واعلموا ـ رحمكم الله، أنّ الأمم لا تُرفع بالشعارات ولا تزدهر بالأماني، وإنما بقلوب صادقةٍ تتآزر، وسواعد أمينةٍ تتناصر، فإذا صدق العزمُ وتوحد الصفُّ أشرقت شمس النهضة وأينعت ثمار الرسالة.»
* جامعة المسيلة