20 أوت 1955 الميلاد الثاني للثورة الجزائرية
أ. عبد الحميد عبدوس/ أحيت الجزائر يوم الأربعاء الماضي (20أوت 2025) الذكرى المزدوجة لليوم الوطني للمجاهد الذي يرمز لذكريين ثوريتين، تؤرخان لأمجد محطات تاريخ الجزائر الحافل بالبطولات والمآثر . يتعلق الأمر بالذكرى السبعين لهجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955، والذكرى التاسعة والستين لانعقاد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956. لم تكن قد مرت سوى …

أ. عبد الحميد عبدوس/
أحيت الجزائر يوم الأربعاء الماضي (20أوت 2025) الذكرى المزدوجة لليوم الوطني للمجاهد الذي يرمز لذكريين ثوريتين، تؤرخان لأمجد محطات تاريخ الجزائر الحافل بالبطولات والمآثر . يتعلق الأمر بالذكرى السبعين لهجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955، والذكرى التاسعة والستين لانعقاد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956. لم تكن قد مرت سوى 10 أشهر على انطلاق الرصاصة الأولى لثورة الفاتح نوفمبر 1954 ليقرر أبطال الجهاد الجزائري في الداخل، إعطاء نفس جديد وقوي لتوسيع مسيرة الثورة وتجذيرها في الأوساط الشعبية. وبعد مرور 22 شهرا على انطلاق الثورة توافق أغلب قادة الثورة على تحصينها وتزويدها بإطار تنظيمي سياسي وعسكري يحافظ على مكاسب الثورة ويفتح لها آفاقا جديدة لتطوير أدائها وتحقيق أهدافها.
في 25 جانفي 1955، أي بعد أقل من 100 يوم عن اندلاع ثورة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي في نوفمبر 1954، عينت الحكومة الفرنسية عالم الانثروبولوجيا، جاك سوستال، حاكما جديدا للجزائر، وهو من أصل يهودي اسمه، بن سوسان. كان أول إجراء اتخذه سوستال في الجزائر بصفته الحاكم العام الجديد هو إعلان حالة الطوارئ في أفريل1955، كما اتخذ قرارا ثانيا تمثل في محاولة تشويه صورة الثورة بوصفها انتفاضة جياع، وأن من قاموا بها هم مجموعة من المجرمين وقطاع الطرق واللصوص. وانشأ المصالح الإدارية الخاصة (لصاص) التي كان لها دور كبير في الحرب النفسية وتشويه سمعة المجاهدين، وتجنيد العملاء، والتجسس على الأهالي، لتحقيق مشروع دمج الجزائريين بفرنسا والقضاء على شخصيتهم الإسلامية العربية، وإجهاض فكرة الاستقلال عن فرنسا.كان سوستال يعتقد أن القيام ببعض الإصلاحات الإدارية والاقتصادية في الجزائر كفيل بإخماد نار الثورة. يعتبر سوستال من أكبر أنصار دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ أسس في سنة «1958 التحالف الفرنسي ـ الإسرائيلي».
في جوان 1955 أعد جاك سوستال تقريرا قدمه للحكومة الفرنسية في باريس، استعرض فيه وضعية الثورة المسلحة في الجزائر في عامها الأول، وإحصاء لعدد المجاهدين (الذين يسميهم الإرهابيين) في المناطق العسكرية للجزائر (التي أصبحت بعد مؤتمر الصومام التاريخي في20 أوت 1956 تسمى الولايات). قدر جاك سوستال عدد المجاهدين في منطقة القبائل الكبرى (المنطقة الثالثة) بـ 150 رجلا يحملون أسلحة بدائية يقودهم كريم بلقاسم وعمر أوعمران. وفي منطقة الشمال القسنطيني (المنطقة الثانية) قدر عدد المسلحين بين 100إلى 200 مسلح يقتصر نشاطهم على القيام باعتداءات إرهابية وأعمال تخريبية. أما في منطقة الأوراس والشرق القسنطيني (المنطقة الأولى) التي اعتبرها المنطقة الأكثر خطورة في خارطة الكفاح المسلح، فقد قدر عدد المسلحين فيها بين 500 إلى 600 مسلح وهم يقومون بمهاجمة القوافل العسكرية ومراكز الدرك والشرطة وتصفية عملاء الاستعمار الفرنسي.
ركزت سلطات الاحتلال الفرنسي وجيشها الجهود على منطقة الأوراس (المنطقة الأولى) وتم فرض حصار عسكري خانق عليها لكسر شوكة الثورة والقضاء عليها في مهدها. كان المحتل الفرنسي يظن أن القضاء على الكفاح الجزائري المسلح أصبح مسألة أسابيع أو شهور فقط، خصوصا بعد الخسائر المؤلمة والنكسات الموجعة التي أصابت صفوف المجاهدين بعد أن استشهد في 4 نوفمبر 1954 القائد رمضان بن عبد المالك نائب الشهيد العربي بن مهيدي قائد المنطقة الخامسة، واستشهد في 18 جانفي1955 القائد مراد ديدوش، قائد المنطقة الثانية، وبعد اعتقال بعض قادة الثورة المسلحة وسجنهم، من أمثال الشهيد الراحل مصطفى بن بولعيد قائد المنطقة الأولى في 11 فيفري 1955، و قائد المنطقة الرابعة المجاهد الراحل رابح بيطاط في مارس 1955.
كان الشهيد البطل يوسف زيغود الذي خلف الشهيد مراد ديدوش في قيادة المنطقة الثانية، يتمتع بإيمان ديني عميق، وروح وطنية متقدة، وشجاعة خارقة، وحنكة عسكرية عالية، وتجربة نضالية طويلة. فقد أشرف بمسقط رأسه بسكيكدة على تنظيم مظاهرات 8 ماي 1945، وناضل في صفوف المنظمة السرية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية منذ تأسيسها سنة 1947 إلى أن تم اكتشافها وتفكيكها من طرف العدو الفرنسي سنة 1950، وعلى إثرها ألقي القبض على يوسف زيغود مع مئات المناضلين الجزائريين وأدخل إلى سجن عنابة. استطاع يوسف زيغود بصحبة عدد من رفاقه الهروب من السجن في ليلة 21 أبريل سنة 1951. في سنة 1955 تمكن البطل يوسف زيغود، رغم المراقبة والرصد المتواصل من طرف أجهزة الاستخبارات الفرنسية لتحركاته، من الاستجابة لنداء أخيه الشهيد بشير شيحاني القائد المؤقت للمنطقة الأولى الذي طلب من قيادة المنطقة الثانية المساعدة في فك الحصار الفرنسي الخانق المضروب على منطقة الأوراس، المعقل الرئيسي للكفاح الجزائري المسلح والتي انطلقت منها الرصاصة الأولى في ثورة الفاتح نوفمبر 1954. أشرف الشهيد يوسف زيغود على تنظيم زحف عسكري وشعبي ناجح على المصالح العسكرية والاقتصادية للفرنسيين في منطقة الشمال القسنطيني. نفذ اكبر هجوم مسلح قامت بها الثورة الجزائرية ـ آنذاك ـ بمشاركة مجاهدين وفئات شعبية بما فيها العنصر النسوي وألحقوا هزيمة عسكرية مذلة بالجيش الفرنسي بعد قتال مباشر في وضح النهار بأسلحة تقليدية من بنادق وسواطير وفؤوس وعصي. توخى مهندس هجومات الشمال القسنطيني الشهيد البطل يوسف زيغود من وراء إشراك مختلف فئات المواطنين في عمل قتالي عسكري منح الثورة المسلحة حاضنة شعبية، وكسر حاجز الخوف في نفوس المواطنين، ووضع حد لموقف الانتظار والمماطلة لبعض السياسيين المترددين في الالتحاق بركب الثورة المسلحة، وإسقاط دعاية الاستعمار التي كانت تصر على وصف المجاهدين الأوائل بأنهم أقلية خارجة عن القانون، وعناصر منبوذة من الفارين من السجن و الهاربين من العدالة. كما كان قرار القائد الشهيد يوسف زيغود (سي أحمد) بشن هجومات كبيرة على مواقع لجيش فرنسا ومصالحها الاقتصادية في منتصف النهار بمثابة رسالة واضحة للداخل والخارج للدلالة على مدى إقبال المجاهدين على طلب الشهادة واستعداد فئات الشعب للتضحية بأنفسهم في سبيل تحرير الوطن، ودفع فاتورة الدم لاستعادة السيادة والاستقلال، وطرد المستعمر الفرنسي الغاشم الذي احتل الأرض واستباح العرض ودنس المقدسات. أغلب المختصين في التاريخ الوطني يتفقون على اعتبار محطة 20 أوت 1955 بأنها الانطلاقة الثانية للثورة.. لقد استمرت هجمات 20 أوت 1955 في يومها الأول من منتصف النهار إلى غاية الليل، ودامت ثلاثة أيام، وشملت أغلب مناطق الشمال القسنطيني الواقعة تحت قيادة المنطقة الثانية مثل: سكيكدة، جيجل، ميلة، عنابة، قالمة وبعض مناطق شمال سطيف وبجاية.
كان رد الإدارة الاستعمارية على انتفاضة الشمال القسنطيني سريعا ووحشيا ورهيبا ومروعا. تراوح عدد ضحايا القمع الفرنسي الأعمى ما بين 12000 و20000 شهيد، وعمدت قوات الاحتلال الفرنسي إلى القتل الجماعي والذبح والحرق وبقر بطون الحوامل والتمثيل بالبشر وسحق النساء والأطفال والشيوخ المكبلين بالدبابات و دفن الضحايا أحياء بواسطة جرافات، خصوصا على أرضية الملعب البلدي لمدينة سكيكدة، المسمى حاليا ملعب 20 أوت 1955.
وقع صدمة هذا القمع الاستعماري الوحشي، وضخامة حجم فاتورة الدم الباهظة بشريا من ضحايا انتفاضة الشمال القسنطيني، وأغلبهم من المدنيين العزل والنساء والأطفال، دفع بعض قادة الثورة الجزائرية إلى إلقاء اللوم على قائد عمليات هجومات الشمال القسنطيني، الشهيد البطل يوسف زيغود، وكمثال على ذلك النقد اللاذع الذي وجهه منظم مؤتمر الصومام الشهيد رمضان عبان الذي كان يؤمن بأولوية العمل السياسي على العسكري، والذي صب جام غضبه في مؤتمر الصومام على مبادرة الشهيد زيغود يوسف بشن هجومات 20 أوت 1955 معتبرا أن الخسائر البشرية كانت كبيرة في صفوف المدنيين الجزائريين لأن قادة الشمال القسنطيني لم يسيطروا على مجريات الثورة الشعبيةـ في تقديره ـ هذا النقد العلني واللاذع من طرف القائد الشهيد رمضان عبان لهجومات الشمال القسنطيني ولقادتها، أثار حفيظة الشهيد يوسف زيغود الذي رد غاضا على رمضان عبان: «من تكون أنت حتى تحاسبني على ما أفعل!». لم يكن قائد هجومات الشمال القسنطيني ليرضى عن الاستهانة بانتفاضة شعبية وعملية عسكرية بطولية كان لها نتائج إيجابية على المستوى الداخلي والخارجي للثورة الجزائرية، وحققت مكاسب شعبية وسياسية ودبلوماسية مهمة لثورة التحرير. فعلى المستوى الخارجي تم بفضل هذه الانتفاضة تدويل القضية الجزائرية وإدخالها إلى أروقة الأمم المتحدة وفضح الطابع الاستعماري للوجود الفرنسي في الجزائر، كما ساهمت الانتفاضة على المستوى الداخلي في تقوية جيش التحرير الوطني بمئات المقاتلين الجدد والمسبلين الذين التحقوا بصفوف الثورة،كما تم تحويل الثورة بصفة جذرية من قضية نخبوية إلى قضية شعبية، وتمكنت هجومات الشمال القسنطيني من تشتيت التركيز الفرنسي، ورفع الضغط عن منطقة الأوراس. وقد اعترف العدو الفرنسي بالدور الحاسم لهجمات 20 أوت 1955 . حيث أكد الحاكم العام للجزائر جاك سوستال، أن: «هجومات 20 أوت 1955 تمثل الانطلاقة الحقيقية لما يحدث في الجزائر». واعترفت نشرية المكتب الثاني (مصالح المخابرات) في القوات الاستعمارية الخاصة بشهر أوت 1955 بنجاح هجومات 20 أوت 1955 في المنطقة الممتدة ما بين عنابة والميلية. وأكدت مختلف عناوين الصحافة الدولية عقب هجومات 20 أوت 1955، أن من يقوم بالثورة: «هو الشعب برمته».