إلى الأئمة الخطباء فقط!!

مما أكرم الله به الأئمة الخطباء في المجتمعات الأسلامية، فرصة مخاطبة الجماهير الواسعة بمعتقداتهم، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الله، وإمامة الناس في الصلاة، حيث مكَّنهم من مخاطبة هذه الجماهير مرة كل أسبوع على الأقل في خطب الجمعة، وهي فرصة لم تتح لغيرهم من الناس؛ بل هي فرصة وأية فرصة، مدة عشرين دقيقة […] The post إلى الأئمة الخطباء فقط!! appeared first on الشروق أونلاين.

يونيو 11, 2025 - 17:53
 0
إلى الأئمة الخطباء فقط!!

مما أكرم الله به الأئمة الخطباء في المجتمعات الأسلامية، فرصة مخاطبة الجماهير الواسعة بمعتقداتهم، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الله، وإمامة الناس في الصلاة، حيث مكَّنهم من مخاطبة هذه الجماهير مرة كل أسبوع على الأقل في خطب الجمعة، وهي فرصة لم تتح لغيرهم من الناس؛ بل هي فرصة وأية فرصة، مدة عشرين دقيقة والإمام يتكلم ويوجه ويأمر وينهى ويثني ويحتج ويغضب ويرضى… ولا أحد يقدر على أن يقول له لا أو لماذا قلت؟ أو يجتج أو يعقب أو يعترض. على رأي رآه… وهي فرصة لم تتح لرؤساء الجمهوريات ولا للملوك ولا لغيرهم!!
إن خطب الجمعة من العبادات التي أوجب الله السعي إليها على الأمة الإسلامية قاطبة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة 9]، تحبيبا للمؤمنين في حضور الجُمعات وصلواتها، تثبيتا لعلاقة المسلم بربه، وإعمارا للمساجد، واجتماعا بالناس من الأقارب والجيران… وذلك مرة كل أسبوع على الأقل وجوبا، وفي الصلوات الخمس استحبابا وكذلك صلاة العيدين مرتين في كل سنة.
لقد مرت الأمة بالكثير من الأزمات والاضطرابات والاهتزازات السياسية والثقافية والاجتماعية والحروب بين الأنظمة السياسية المتنافرة، في طول التاريخ وعرضه، ولم تمس هذه العلاقة المتينة بين الإمام والمسلم والمسجد، إلا في حالات خاصة عند بعض المذاهب أو في مراحل محدودة، ووفق تحكمات معينة، عندما ألغيت الخلافة وقرر مصطفى كمال أتاتورك منع الأذان بالعربية والتضييق على المساجد… في الدولة التركية الحديثة، أو عنذ بعض المذاهب التي أسقطت الجمعة بسبب غياب الإمام الشرعي…، على خلاف باقي مذاهب الأمة؛ بل عادت الأمور إلى ما كانت عليه، بعد قضاء اجتهادات أرباب المذاهب الضيقة الأفق، وشهوة أرادها العلمانيون الأتراك خلال الفترة اللادينية المتطرفة.
والذي يهمنا اليوم في هذه الوقفة هو الإمام، في هذه الفرص الرائعة التي مكنه الله منها هل أخذها بحقها، وأدى ما لله عليه فيها؟ سواء في ذلك في إقامة الصلوات الخمس، أو في خطب الجمعة أو في صلاة وخطبتي العيدين، وبعبارة أخرى، هل الإمام مُقدِّرٌ لهذه الفرصة الهامة التي لم ينلها غيره، سواء في ميزان الله لكونه يقوم بفعل نيابة عن النبي، والمصلح والمبلغ عن الله، أو بالنسبة لعلاقته بالمسجد والمداومة على حضور الجماعة، وما يتبع ذلك من أنشطة… من خطب وتوجيهات ولقاءات الناس؛ بل إن الإمام الذي يقدر هذه النعمة، له فضل كبير خاصة في لقاء الناس مع بعضهم البعض، في هذه الصلوات، وفيما يتابعون من حلقات العلم التي تنظم هنا وهناك في المساجد…
وما لفت انتباهي خلال هذه السنوات الطويلة –وفي السنوات الثلاثين الأخيرة-، في بلادنا الجزائر، هو غياب الأئمة المؤثرين بخطبهم الدعوية الجامعة للناس على الخير، الداعية إلى الله وإلى الإصلاح الاجتماعي عموما..، فلا نلمس أثر ذلك في الواقع في الكثير من الأحيان…، كما كان الأمر خلال ثمانينيات القرن الماضي –سنوات الصحوة- بحيث لا تترك الخطب الجمعية أثرها في نفوس الناس… فلا ندري أين المشكلة؟ أهي في الإمام الذي لا يرى في نفسه، إلا موظفا في الدولة يصلي بالناس ويخطب الجمعة ولا شيء بعد ذلك؟ أم المشكل في الجماهير التي قست قلوبها وانحرفت اهتماماتها؟ فلا يُولون الجمعات اهتماما كثيرا، ولا يذهبون إلى المساجد إلا في اللحظات الأخيرة ليشهدوا الصلاة فقط، أو يحضرون الجمعة وقلوبهم معلقة بأشياء أخرى لا علاقة لها بمتابعة الإمام، رغم أن التوجيهات الشرعية تحث الناس على الانتباه خلال الخطبة كما جاء في الحديث: “من مس الحصى فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له”، وذلك تنبيه إلى ضرورة متابعة الخطبة لأنها تعد بمثابة الركعتين التي تتمم صلاة الظهر؛ لأن صلاة الجمعة ركعتين فقط.
أم أن المشكل في الأنظمة السياسية، التي تريد من الأئمة أن يكونوا خداما لها، فلا ينبغي عليهم أن يهتموا بمهامهم كدعاة ومصلحين، وإنما عليهم ان ينفذوا ما تريده السلطات في البلاد…
وهذه الاحتمالات في تقديري كلها موجودة، ففي الأئمة الكثير ممن هم ليسو في المستوى…، فعدد الأئمة بعدد المساجد، فما أظنهم يكونون في نفس المستوى الذي تقتضيه الإمامة في المجتمع؛ بل إن المؤسسات التي تُخرِّج لنا الإطارات الدينية، في الغالب لا تحرص كثيرا على تخريج المستوى الذي يرتقي إلى مكانة العرش الذي يتربع عليه الأئمة بمستوياتهم الحالية، والجمهور هو الآخر الكثير منه لو لم تكن الجمعة واجبا لما ذهب إلى المسجد أصلا، وفي ذلك الكثير من السلبيات المؤثرة على رسالة المسجد في الإصلاح الاجتماعي.
رحم الله السنوات التي كانت فيها خطب الجمعة هي حديث الأسبوع… ورحم الله أيام كان الناس فيها يشدون الرحال إلى المساجد ابتداء من الساعة العاشرة من صبيحة الجمعة…، طمعا في الحصول على مكان داخل المسجد، ورحم الله مجتمعات كانت تعد الإمام هو المرجع الأول في دينها ودنياها… فالشيخ هو القاضي والمرشد والمصلح…، وفي المقابل رحمه الله زمنا كان الإمام يشعر بضرورة الدعوة إلى الله وبتبليغ رسالة الله حرصا على استقرار المجتمع وأمنه وصلاحه… حتى أن الكثير من الأئمة كانوا مصدر إلهام لأحيائهم بفضل ما يقومون به من أنشطة لصالح أحيائهم؛ بل إن هذا النوع من الأئمة لم يكونوا موظفين في القطاع، وإنما كانوا أساتذة في الجامعات وعمال بمؤسسات مختلفة، وجاءوا للقطاع الديني متطوعين في سبيل الله.
لا شك أن المقصد الأول من خطب الجمعة وحضورها من السعي إلى ذكر الله الذي أمر الله به، هو التعبير عن التعبد المحض والتوجه إلى الله بهذه العبادة النوعية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة 9]، ولكن العبادات لم تشرع إلا لتحسين ما يرتبط بها تمتينا للعلاقة بالله وبالحياة والواقع والمحيط… ومن ذلك خطبة الجمعة ودورها وأثرها في البناء العقدي والفكري والثقافي للمجتمع.
إن الفرصة التي أعطيت للخطيب ومُكِّن منها، لم تتح لأحد من العالمين، لا رؤساء ولا ملوكا ولا قيادات سياسية واجتماعية… ومع ذلك لم نلمس الأثر المطلوب للخطاب المسجدي في حياة الناس.
ورغم صعوبة تعليل هذه الاختلالات في هذا الموضوع المتشابك، يبدو لي أن السبب يمكن تلمسه في جملة من التوجهات التي لا تليق بالخطاب المسجدي ورسالته المقدسة:
أولا: أن الأئمة لا يمارسون حرياتهم ولا يتحملون مسؤولياتهم كخطباء، وإنما يمارسون مهامهم كمظفين في الدولة، ويطوعون خطبهم ويوجهونها إلى ما يرضي ضمائرهم ببث القناعات الفردية، مثل التيارات الحزبية ومثل ذلك: الفئة المدخلية، إرضاء لأرائهم الفقهية الجزئية، وأحيانا إرضاء لأولياء نعمهم من الأمراء والملوك والرؤساء، وكل من لهم علاقة بالتوجهات السياسية الفئوية… فجعلوا من خطب الجمعة مواضيع مناسبتية وموسمية وطنية ودينية وقليل من قضايا الأمة؛ بل في بعض البلاد ربما أصدرت الإدارة الوصية الخطبة مكتوبة، فلا حيلة للإمام إلا قراءة ما أرسل إليه.
ثانيا: بحكم أن الإمامة وظيفة من وظائف القطاع الديني، ربما عين إمام في غير موضعه، فيكون إماما شكلا، وهو في حقيقة أمره غير مؤهل لذلك؛ لأن الإمامة لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها مهمة بسيطة يمكن القيام بها بتوفير أبسط الشروط، كما يقول الفقهاء “من صحت صلاته صحا إمامته”، إنما ينبغي ألنظر إليها على أنها مهمة رسالية دعوية، نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الخير، وتعليما للناس وتدريبا لهم على فعل الأفضل والأولى والأصلح.
ثالثا: قد يكون الخطيب ناجحا في خطابه، ولكنه بحكم تركيزه على قناعاته الفردية الجزئية الفئوية، يحرف رسالة الخطبة عن مسارها الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه؛ لأن رسالة الخطيب هي التركيز على الكليات الدينية الجامعة وليس الجزئيات التي من طبيعتها أنها محل اجتهاد ونظر بين العلماء، ولذلك كانت خطب البي صلى الله عليه وسلم مواعظ، حتى المأثور عنهه أنه كان يقرأ سور قاف، في خطبه؛ لأنها من السور القليلة التي تصقف مشاهد القيامة التي تمثل مصير المؤمن ونهايته.
وهناك أسباب أخرى لا يتسع المجال لذكرها الآن، ربما نعود إليها في حديث لاحق.

شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين

The post إلى الأئمة الخطباء فقط!! appeared first on الشروق أونلاين.