التدافع والفكرة: رسائل إلى الغد

عبد اللطيف سيفاوي/ لم يكن لقاء السبت 20 سبتمبر 2025 بمقر مؤسسة «آفاق»، الذي نظمه الكرسي العلمي مالك بن نبي، مجرد جلسة حوارية للاحتفاء بصدور كتاب ذكريات شاهد ثمانين حولا للدكتور محمد جاب الله. لقد كان المشهد أوسع وأعمق: رجلان وقوران، تجاوزا الثمانين، جلسا جنبًا إلى جنب أمام جيل من الأساتذة والطلبة، ليستحضرا عقودًا من …

سبتمبر 30, 2025 - 17:19
 0
التدافع والفكرة: رسائل إلى الغد

عبد اللطيف سيفاوي/

لم يكن لقاء السبت 20 سبتمبر 2025 بمقر مؤسسة «آفاق»، الذي نظمه الكرسي العلمي مالك بن نبي، مجرد جلسة حوارية للاحتفاء بصدور كتاب ذكريات شاهد ثمانين حولا للدكتور محمد جاب الله. لقد كان المشهد أوسع وأعمق: رجلان وقوران، تجاوزا الثمانين، جلسا جنبًا إلى جنب أمام جيل من الأساتذة والطلبة، ليستحضرا عقودًا من التجربة والفكر، وليخطّا بها رسائل تتجاوز الحاضر لتضيء طريق الغد. رسائل عبّرت عن جدلية التدافع والفكرة في حياة الأمة، وكيف يمكن تحويل الذاكرة إلى بوصلة للمستقبل.
الأول، الدكتور محمد جاب الله، طبيب العيون الذي عالج أبصار الناس. والثاني، الدكتور عمار طالبي، العالم الموسوعي الذي أنار بصائرهم. اختلفت التخصصات، لكن جمعهما الكثير: صحبتهما لمالك بن نبي، لقاءاتهما مع علماء الجزائر الكبار، وانخراطهما في فضاءات مثل نادي الترقي وجمعية القيم ومسجد الطلبة بالجامعة المركزية. والأهم من ذلك: وعي مشترك بمسار التدافع الفكري في الجزائر بعد الاستقلال، وما حمله من دروس وعِبر.
لم يكن الحوار إذن مجرد استرجاع لذكريات الماضي، بل كان – كما أراد له الكرسي العلمي مالك بن نبي – فعلًا فكريًا يتجاوز التوثيق إلى بناء وعي جديد، وإلى تسليم شعلة التجربة لجيل المستقبل. فمن خلال شهاداتهما ومؤلفاتهما (ذكريات شاهد ثمانين حولا وخزانة الذاكرة)، لم يكتف الرجلان بالسرد، بل حملا رسائل بليغة تشكّل خلاصة عقود من العمل والفكر.

الرسالة الأولى:
ضرورة التمييز بين الغاية والوسيلة.
فالعمل المنظم مطلب عقلي وشرعي، لكن الخطر يكمن حين تتحول الوسائل إلى غايات في ذاتها، فيُهمَل المشروع وتُهمّش الفكرة، وتُستنزف الطاقات في معارك هياكل بدل أن تكون في خدمة الأفكار والبرامج. وقد عاش الجيل السابق واقعًا صعبًا: تعددت التنظيمات لا لاختلاف الرؤى والمشاريع، بل كأدوات لصراعات شخصية وفئوية، فضاعت الوحدة وتبدّد الزمن والجهد في معارك جانبية.
الرسالة الثانية:
إبقاء التدافع في إطاره الفكري النبيل.
فقوة المشروع لا تُقاس بعضلات ولا تُحسم بالدماء، وإنما تُستمد من قوة الفكرة وأصالتها وتجذرها ونقائها. هذه الحقيقة هي ما أدركته المشاريع التغريبية، فسعت إلى إخراج التدافع من مجاله الفكري وتحويله إلى نزاع عنيف يقسم الأمة ويُنهكها.
لقد كان اللقاء بحق درسًا في أن التدافع إذا انفصل عن الفكرة تحول إلى عبث، وأن الفكرة إذا صانت نقاءها أصبحت بذرة الغد.
ختامًا، إن ما خرجنا به ليس مجرد ذكريات جيل مضى، بل إشارات طريق. رسائل الحكمة هذه لم تُكتب للماضي، بل كُتبت للغد، لتبقى شاهدًا على أن مستقبل الأمة يصنعه وعيها بسنن التدافع ونقاء فكرتها.