“الحرية الفردية للمرأة في الإسلام: بين صون الكرامة وحماية الأسرة”

د. وهيبة بوصبيع/ تتكرر في الخطاب المعاصر دعوات لإطلاق “الحرية الفردية للمرأة” بمعزل عن الضوابط الدينية أو الأسرية. غير أن هذا الطرح يغفل أن الحرية المطلقة قد تتحول إلى فوضى تُقوِّض الأسرة وتُضعف دور المرأة نفسها. في التصور الإسلامي، الحرية ليست انفلاتا من كل قيد، بل هي تحرر من العبودية لغير الله، وممارسة مسؤولة تضبطها …

سبتمبر 2, 2025 - 16:11
 0
“الحرية الفردية للمرأة في الإسلام: بين صون الكرامة وحماية الأسرة”

د. وهيبة بوصبيع/

تتكرر في الخطاب المعاصر دعوات لإطلاق “الحرية الفردية للمرأة” بمعزل عن الضوابط الدينية أو الأسرية. غير أن هذا الطرح يغفل أن الحرية المطلقة قد تتحول إلى فوضى تُقوِّض الأسرة وتُضعف دور المرأة نفسها.
في التصور الإسلامي، الحرية ليست انفلاتا من كل قيد، بل هي تحرر من العبودية لغير الله، وممارسة مسؤولة تضبطها مقاصد الشريعة في حفظ الكرامة وصيانة الأسرة. فالمرأة تملك حق الاختيار في قضاياها الأساسية، لكن ضمن إطار يوازن بين حقوقها الفردية ومصلحتها الأسرية والاجتماعية.
تهدف هذه الدراسة إلى إبراز خصوصية المنظور الإسلامي للحرية الفردية، من خلال بيان أسسها الشرعية، وتطبيقاتها العملية في حياة المرأة، ودور الأسرة باعتبارها الضامن لتوازن الحرية مع المسؤولية.

• الحرية الفردية في التصور الإسلامي
الحرية في الإسلام قيمة تأسيسية، لكنها ليست حرية مطلقة تنفلت من كل ضابط، وإنما حرية مقيدة بمقاصد الشرع، تُمارس
في إطار المسؤولية. فقد قرر القرآن الكريم تكريم الإنسان:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، وجعل مناط هذا التكريم العقل والإرادة الحرة. وفي الوقت نفسه حدد الغاية من وجوده:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. ومن ثم، فإن الحرية في الإسلام تعني تحرر الإنسان من كل عبودية لغير الله، لا انفلاته من الشرع أو خروجه على منظومة القيم.
1. الحرية بوصفها مسؤولية شرعية:
أقرَّ الإسلام للمرأة حرية فردية، لكنه قيَّدها بضوابط المسؤولية الشرعية حتى لا تنقلب إلى فوضى أو ضرر. وقد قررت الشريعة قاعدة «لا ضَررَ ولا ضِرارَ» (حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني)، فجعلت الحرية مرتبطة بعدم الإضرار بالنفس أو بالآخرين. ويُعد هذا أصلا كليا يضبط ممارسة الحقوق الفردية. ومن ثمّ، حرَّم الإسلام كل ما يُفضي إلى امتهان الكرامة باسم الحرية، كالزنا، أو التبرج، أو التفريط في المسؤوليات الأسرية.2. الحرية في شؤون المرأة الخاصة:
أقر الإسلام للمرأة ذمة مالية كاملة، فقال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ [النساء: 32]. وأثبت لها حق اختيار الزوج: « الأيِّمُ أَحَقُّ بنَفْسِهَا مِن وَلِيِّهَا» (رواه مسلم)، وحق الخلع عند استحالة العشرة: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229]. فهذه النصوص تؤكد أن حرية المرأة أصيلة وليست منحة.
3. الحرية وصيانة الكرامة:
لم تأتِ التشريعات الإسلامية الموجِّهة للمرأة ـ كالأمر بالحجاب والنهي عن التبرج ـ لنقض مبدأ الحرية أو الحدّ منه، وإنما لتأطيره بما يصون الكرامة الإنسانية ويحول دون ابتذالها أو تحويلها إلى وسيلة استغلال. فالحرية في التصور الإسلامي لا تُمارَس في فراغ، بل تضبطها غاية عليا هي حفظ المقاصد الضرورية وحماية الإنسان من امتهان ذاته. ومن هذا المنظور جاء التوجيه القرآني: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ [الأحزاب: 59]، ليؤكد أن الضوابط الشرعية ليست تقييدا للمرأة، بل صيانة لكرامتها وضمان لسلامتها في المجتمع.

• تجليات الحرية الفردية في قضايا المرأة
1. حرية الجسد وصيانة العِرض:
حماية الجسد وصون العرض من المقاصد الكلية للشريعة؛ فقد قال : «إنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ» (متفق عليه). ومن ثمّ لا يملك الإنسان ـ رجلًا كان أو امرأة ـ حرية التصرّف في جسده بما يهدر كرامته أو يعبث بإنسانيته، إذ تُقيَّد هذه الحرية بمقصد حفظ العرض والنسل.
2. حرية الزواج والطلاق:
جعل الإسلام الزواج عقدا رضائيا يقوم على الاختيار الحر، فقال : «لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حتَّى تُسْتَأْمَرَ، ولا تُنْكَحُ البِكْرُ حتَّى تُسْتَأْذَنَ» (البخاري ومسلم). وفي الوقت نفسه، ضبط الطلاق بضوابط تحمي مصلحة الأسرة، وتصون حقوق الأبناء، وتمنع العبث بقدسية العلاقة الزوجية.
3. حرية التملك والعمل:
أثبت الإسلام للمرأة حق التملك والتصرّف في مالها، وأجاز لها العمل دون ولاية، غير أنه قيّد هذه الحرية بقاعدة التوازن الأسري، بحيث لا تتحول المشاركة الاقتصادية إلى إهدار لوظيفتها الأساسية في رعاية الأسرة. وقد عُرفت الصحابيات بانخراطهن في مجالات متعددة مع الحفاظ على هذا التوازن.
4. حرية الرأي والمشاركة:
أقرّ القرآن مشاركة المرأة السياسية والاجتماعية، فأثبت بيعتها للنبي ﷺ: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ﴾ [الممتحنة: 12]. كما تجلّت أهليتها في المشورة يوم الحديبية حين أخذ النبي ﷺ برأي أم سلمة، فكان موقفها حاسما، مما يرسّخ مبدأ أهلية المرأة في الرأي والشورى.

• الأسرة إطار جامع للحرية الفردية
الحرية الفردية للمرأة في الإسلام تُمارس داخل إطار الأسرة، التي تمثل الضامن الأكبر لعدم تحول الحرية إلى فوضى أو استغلال.
1. الأسرة مقصد شرعي:
الأسرة مقصد أصيل من مقاصد الشريعة، إذ قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا…﴾ [الروم: 21]. فهي الضامن لحفظ النسل، وبناء السكينة والمودة، ومن ثمّ فإن الحرية الحقيقية لا تكتمل إلا في ظلها.
2. التكامل في المسؤولية:
جاء في الحديث النبوي: «كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ» (متفق عليه). فحرية المرأة داخل الأسرة لا تنفصل عن مسؤوليتها، غير أنها مسؤولية قائمة على الشراكة والتكامل، لا على التبعية أو الإلغاء.
3. الحماية من التفكك والاستغلال:
المرأة خارج إطار الأسرة قد تُختزل في كيان هشّ معرض للاستغلال، أما داخلها فهي مكرّمة بضمانات شرعية: النفقة واجبة لها، والميراث حق مقرر، والحماية الاجتماعية واجبة على المجتمع والدولة.
4. الأسرة وحفظ الهوية:
الأسرة فضاء حضاري لترسيخ القيم وصيانة الهوية، ومن خلالها تتحول الحرية إلى ممارسة واعية مرتبطة بالمصالح العليا للأمة، لا إلى نزعة فردية منعزلة تفضي إلى التفكك وضياع الانتماء.
وفي ضوء ما سبق يتبيَّن أن الحرية الفردية في التصور الإسلامي ليست شعارا دخيلا ولا قيدا مصطنعا، بل منظومة متكاملة تنطلق من تكريم الإنسان، وتوازن بين حق الفرد ومسؤولية الجماعة؛ ومن هذا المنطلق نالت المرأة حقوقها الأصيلة في التملك والعمل والاختيار والمشاركة، لكن في إطار قيمي يصون كرامتها ويحمي الأسرة من التفكك. وهكذا يُقدم النموذج الإسلامي حرية منضبطة تحفظ الهوية، وانتماء راسخا لا يلغي شخصية المرأة، مما يجعل هذا التوازن الضامن الأهم لاستقرار الأسرة المسلمة أمام تحديات العصر.