بمناسبة الذكرى المئوية لانطلاقة “المنتقد” (1925 – 2025): من “المنتقد” إلى “الشهاب” 100سنة من جهاد القلم
ملف من إعداد الأستاذة كريمة عشيري/ مثلتْ الصحافة في حركة الإصلاح والدعوة والتغيير عند جمعية العلماء ا لمسلمين الجزائريين، وعلى رأسها العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس حقلا من أهم الحقول ووسيلة من أعظم الوسائل لتحقيق مقاصد الدعوة والإصلاح إلى جانب المدارس، والنوادي، والمساجد. ويدلّ ذلك على “فقه عميق” لحركة التغيير وضوابطه وطرائقه. من هذا …

ملف من إعداد الأستاذة كريمة عشيري/
مثلتْ الصحافة في حركة الإصلاح والدعوة والتغيير عند جمعية العلماء ا لمسلمين الجزائريين، وعلى رأسها العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس حقلا من أهم الحقول ووسيلة من أعظم الوسائل لتحقيق مقاصد الدعوة والإصلاح إلى جانب المدارس، والنوادي، والمساجد. ويدلّ ذلك على “فقه عميق” لحركة التغيير وضوابطه وطرائقه. من هذا المنطلق أردنا الوقوف في مناسبة ذكرى إطلاق صحيفة “المنتقد”. فقبل مئة عام، لم يكن في يد العلامة عبد الحميد بن باديس سوى قلم وورقة… لكنه فجّر بهما ثورة وعي هزّت عرش الاستعمار الفرنسي. من “المنتقد” الجريئة إلى “الشهاب” الهادئة الواثقة، كانت صحافة جمعية العلماء لسانًا ناطقًا بالعقيدة، وبندقية تُطلق الحروف بدل الرصاص. واليوم، وبعد مرور قرنٍ كامل على انطلاق هذا المشروع النهضوي الجريء، نعود إلى تلك الأوراق الأولى، نقرأها من جديد، ونستلهم منها طريقًا للمستقبل. في هذا الملف الخاص، نستعرض أبرز محطات صحافة جمعية العلماء، من ميلادها إلى اشتعالها، ومن مصادرتها إلى خلودها في ذاكرة الأمة. الملف يتكوّن من جملة مقالات تجمع بين التوثيق والتحليل والتأمل، وتفتح نافذة على زمنٍ كانت فيه الكلمة موقفًا، والحرفُ سلاحًا، والمجلةُ جبهةً في معركة التحرير والبناء)
الكلمة… سلاح ابن باديس الذي زلزل عرش الاستعمار
بمناسبة مرور قرن على جريدتي المنتقد والشهاب
في زمنٍ انطفأت فيه البنادق، اشتعلت الحروف… وفي يد ابن باديس، تحوّلت الجريدة إلى ثورة.
نعم، الكلمة… تلك التي قال الله تعالى عنها:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}
وتوعّد أهلها في الباطل فقال:{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}!.
الكلمة التي هزّت عروش الطغاة، وأقامت الأمم، وبها نزل الوحي، ومنها ابتدأت أعظم الرسالات. فكيف إذا كانت الكلمة من ابن باديس؟
كيف إذا انطلقت من قلمه، وعُجنت بدم قلبه، وسُكبت على صفحات الجرائد سيوفًا لا تُرى، ولكنها أوجعت فرنسا أكثر من المدافع؟!، نحن اليوم نعيش في زمن فيض الكلمة، لكن شحّ المعنى… ضجيج الأقلام وقحط القيم… المنابر مزدحمة، ولكن الأرواح ضائعة، أما زمن ابن باديس، فكان القلم فيه جهادًا، والجريدة خندقًا، والكلمة شعلة ثورة.
في الثالث من جويلية 1925، خرجت من قسنطينة أول شرارة: جريدة المنتقد لم تكن مجرد صحيفة… كانت إعلان حرب فكرية، وصيحة إصلاحية، ومنبرًا قال فيه الإمام: “باسم الله، ثمّ باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظمة المسؤولية…” (المنتقد، العدد الأول)
كانت “المنتقد” أول تجربة في الصحافة الإصلاحية للشيخ، لم تدم طويلًا، لكنها كانت كثيفة، موجعة، فاضحة للاستعمار وخدامه، كاشفة لعلل الطرقية والخرافة، داعية للعودة إلى الكتاب والسنة، ولغة القرآن، وعزّ الإسلام، ثمّ صودرت الجريدة بعد 18 عددًا فقط، لأنه كسر بها الصمت وفضح الطغيان. ولم تنتهِ المعركة…
بل انتقلت إلى مجلة الشهاب، التي أطلقها الإمام بقوة الفكر وعمق البصيرة، وجعلها منبرًا دائمًا يجمع بين القلم والعقيدة، بين الفكر والمنهج، بين السلفية والحداثة الواعية. فكانت الشهاب، كما وصفها العلماء: “مدرسة تربوية فكرية تبني العقول وتطهّر النفوس، وتزرع الحرية والوعي في زمن الاستعباد”.
لقد كتب فيها عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، ومبارك الميلي، والطيب العقبي، وغيرهم من كبار المصلحين، فصارت الشهاب لسان حال الأمة، ومحرّكًا للنهضة، وسياجًا للهوية.
ومن صفحات الشهاب، أعلن ابن باديس هويّة الجزائر صراحة: “فالجزائر أمازيغية الأصل، عربية الإسلام واللغة، مسلمة الدين، وهذه هي هويتها التي لا يمكن إنكارها.” (الشهاب، فيفري 1938)، وقال أيضًا: “وإني أعلنت أني سلفي، وأعلنت أني تبرأت من كل ما يخالف الكتاب والسنة، ورجعت عن كل قولة قلتها لم يقلها السلف الصالح.” (الشهاب، 951/2)، وكتب البشير الإبراهيمي في مجلتها يدافع عن الإسلام، ويشرح مفاهيم الإصلاح، ويُفنّد شبهات الاستعمار والمتفرنجين، حتى صارت الشهاب أقوى مجلة في العالم الإسلامي آنذاك، بشهادة مفكرين شرقيين وغربيين.
إننا اليوم، ونحن نحتفي بمرور قرن كامل على ولادة المنتقد والشهاب، لا نعيد قراءة التاريخ فقط، بل نُشعل الذاكرة، ونجدد العهد. فنحن لا نقرأ جريدة قديمة، بل نستعيد مشروعًا إصلاحيًا ربانيًا، قاوم الاستعمار بالكلمة، وحرّر العقول بالوعي، وبنى أمةً خرجت من ركام الجهل والخرافة إلى نور العلم والعمل. فيا أبناء الجزائر… يا حملة الأقلام… يا دعاة الكلمة الصادقة… لا تخونوا هذا الإرث! ولا تبيعوا هذا النور بثمن بخس في سوق الشهرة أو الصفقات الرخيصة.
“الحق فوق كلّ أحد، والوطن قبل كلّ شيء”
شعار المنتقد… ولكنه قسمٌ في أعناقنا جميعًا. فلنكمل المسير… ولنحمل الشعلة… ولنكتب –كما كتبوا – من أجل الله، ثمّ من أجل هذا الوطن الجريح الذي ما زال بحاجة إلى منابر الشهاب، وصيحات المنتقد، وعزائم الرجال.
المنتقد… شعلة ابن باديس الأولى في وجه الاستعمار والبدع
بمناسبة مرور مائة عام على صدور العدد الأول من جريدة “المنتقد” للإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، نُعيد قراءة هذه التجربة الرائدة، التي أسست لصحافة إصلاحية مقاومة، شكّلت الوعي الوطني والديني في الجزائر.
حين تُستباح الأوطان، وتُمسخ الهويات، ويُخدّر الوعي بخطب الزيف وأوهام التقدّم، لا يملك المصلح إلا سلاحًا واحدًا: الكلمة. في زمن انحنت فيه الرقاب لفرنسا، وخرست فيه الألسن، وسادت فيه الطرقية والخرافة، انبعث شاب قسنطيني من رحم القرآن، يمشي على خطى محمد بن عبد الله، ويحمل قلماً كالسيف، ومصحفًا كالدستور. كان هو عبد الحميد بن باديس، وكانت “المنتقد” أولى طلقاته النارية… لا مقالة تُنشر، بل صيحة توقظ، وتشهق بوجه الاستعمار والبدع: “كفى صمتًا! لقد آن أن نتكلم”.
المنتقد: منبر النهضة لا ورقة أخبار في الثالث من جويلية 1925، وُلدت “المنتقد”، صحيفة جزائرية نادرة، كتبها ابن باديس بمداد من الوعي والكرامة، ورفعها على راية كُتب عليها: “الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء.”
جاءت أولى كلماتها متوَجَة بنفَس إيماني عميق، مواكبةً لأيام عيد الأضحى، كأنها أضحية فكرية تُراق على مذبح الصحافة من أجل الله والوطن: “من محاسن الصدف وتباشير الفوز والقبول صدور أول عدد من هذه الجريدة في أيام عيد النحر الشريف…”، ثم شقّ ابن باديس بوصلة المشروع: “بسم الله، ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظم المسؤولية…”.
هكذا لم تكن المنتقد مجرد نشرة، بل مشروعًا فكريًا إصلاحيًا، خطته “مبادئ” و”غايات” لا تعرف المساومة ولا المداهنة، بل تسير على منهاج النبوة والإحياء.
العدد الأول… خريطة طريق الثورة الصامتة: من يطالع العدد الأول من الجريدة، يجد مقالًا افتتاحيًا بعنوان: “خطتنا، مبادئنا، غايتنا، وشعارنا”، رسم فيه ابن باديس ملامح الطريق التي ستسلكها المنتقد، والتي ستسلكها من بعده كل الصحف الإصلاحية: “نحن قوم مسلمون جزائريون في نطاق مستعمرات الجمهورية الفرنسوية… نعمل على المحافظة على تقاليد ديننا، وإحياء روح القومية في أبنائنا…”
“لا نخلط بين الدين والسياسة، ولكن نجعل الدين قوامًا لنا، ومهيمنًا شريفًا لسلوكنا، ونظامًا لحياتنا…”
بهذه الرؤية، حوّل الصحافة إلى جهاد، لا يخاطب فرنسا فقط، بل يبعث برسالة إلى الجزائر العميقة: أنتم أمة… استفيقوا!
ورغم أنّ الجريدة لم تصدر سوى في 18 عددًا، إلاّ أنّ كلّ عدد منها حمل بين دفتيه كنزًا من الوعي، وصيحة منبّهة، تجعل القارئ يتشوّق إلى استكشاف هذه الدرر النادرة… فكلّ عدد منها قصة، وكلّ مقالة فيها شعلة.
يقظة الإحساس الوطني: في العدد الرابع، كتب ابن باديس مقالًا بعنوان “الإحساس والشعور”، يشخص فيه عجز الأمة لا باعتباره عجزًا عسكريًا، بل خواءً داخليًا سُلب فيه الجزائري وعيه، وأُفرغ من روحه الحية: “الإحساس والشعور قوتان نفسيّتان عزيزتان في كل إنسان، بهما يفرح ويتألم… لكن الجزائريين قد سُلبوهما بفعل الجهل والقهر”.
بهذه العبارات، استنهض ابن باديس الضمير الوطني، مؤمنًا أن الحرية لا تُطلب بالسلاح فقط، بل بإعادة الحسّ بالحياة، والوعي بالمآسي، والكرامة الضائعة.
نكبات الداخل… وجرأة المواجهة: وفي العدد الخامس، كتب تحت عنوان “نكبات الأمة الجزائرية”، صرخة أليمة تتدفق بوجع أمة نامت عن مجدها، وغفلت عن حضارتها، وتنازلت عن أعز ما تملك: “فيا أبناء الجزائر! ما هذه السِّنون الخدّاعات، والسحب الغرّارات؟! ما هذه الدموع المنهمرات، والأنّات المتتابعات؟!”.
لم يكن النّقد نحيبًا، بل تشريحًا للجروح الداخلية: الجهل، والطرقية، والخرافة، والانقسام. ابن باديس لم يكتف بتعرية الاستعمار، بل تعمّق في معركة أشد خطورة: محاربة ما زرعه الاستعمار من انهزام داخلي.
فسحة الأدب وأخبار العالم: ولم تقتصر الجريدة على المقالات الإصلاحية، بل خُصصت بها صفحة بعنوان “حديقة الأدب”، فسحة راقية حملت توقيع أدباء ومثقفين بارزين، كما رصدت أخبار العالم الإسلامي، وسلّطت الضوء على قضايا الأمة الكبرى، مما منح “المنتقد” روحًا موسوعية وعقلًا يقظًا.
المنتقد: جريدة أُغلقت… ولكنها فتحت التاريخ لم تصمد المنتقد كثيرًا… أُغلقت بعد 18 عددًا فقط، بقرار استعماري غاضب، لأن الكلمة كانت أخطر من السلاح. لكن صوتها بقي يتردد في الشهاب، والبصائر، وفي وعي أجيال ما بعد الاحتلال.
تناولت المنتقد قضايا تمسّ جوهر الأمة:
• نقد البدع والطرقية والخرافة.
• فضح سياسة الإدماج الفرنسي.
• الدفاع عن اللغة العربية.
• إحياء الشعور الديني والوطني.
• نشر الوعي من خلال فسح الأدب ومتابعة شؤون الأمة.
ولم يكن ذلك سردًا نظريًا، بل ممارسة حقيقية للكلمة كفعل مقاومة، ومشروع نهضة، ومنبر يقظة.
ختامًا… “المنتقد” ليست جريدة ماتت، بل هي بذرة نهضة زرعها ابن باديس تحت أنقاض الاستعمار، فأزهرت وعيًا، وأثمرت مقاومة. صوتها لا يزال يتردد في كل قاعة درس، وفي كل مسجد حر، وفي صدر كل شاب يبحث عن هويته.
وما أحوج إعلامنا اليوم إلى روح “المنتقد”، لا لتكون جريدة معارضة فقط، بل لتعيد تشكيل الضمير، وترفع منسوب الوعي، وتواجه استبدادًا جديدًا بأقلام مؤمنة، تنير الطريق ولا تجامل.
“الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء.” صرخة كتبها ابن باديس في صدر المنتقد، لكنها اليوم وُشِمت في ضمير كل جزائري حر.
المنتقد… لم تكن مجرد ورقات، بل كانت ثورة بالحبر، وانتفاضة بالحرف، وصرخة وطن لم تنطفئ بعد.
الشهاب… سيرة المجلة الإصلاحية التي هزّت عرش الاستعمار
في زمنٍ تحكمت فيه فرنسا بالمدرسة، والإدارة، والشارع، وضيّقت حتى على المساجد واللغة والزي، لم يكن أمام رواد الإصلاح إلا أن يبحثوا عن منفذٍ يتسلّلون من خلاله إلى وعي الشعب… وكان المنفذ: الصحافة.
لم تكن الكلمة حينها مجرّد حروف على ورق، بل كانت مشروعَ نهضةٍ، وسلاحَ مقاومةٍ، وأداةً لإحياء الأمّة، لذلك كانت كلّ صحيفة تصدر من عُقر الاستعمار تُعدُّ معجزةً قائمة بذاتها… وعلى رأس هذه المعجزات، ولدت «الشهاب».
من ملحق صغير إلى منارة الإصلاح
ظهرت مجلة «الشهاب» سنة 1925م، أولًا كملحقٍ ثقافي لجريدة «المنتقد»، ثم تحوّلت بسرعة إلى مجلة مستقلة ذات توجه إصلاحي عميق، أشرف عليها الإمام عبد الحميد بن باديس بنفسه، وحرّر مقالاتها، وانتقاها سطرًا سطرًا، حتى صار يُعرف عنها أنها «نَفَس ابن باديس» و»صوت دعوته».
صدرت المجلة بتمويل ذاتي، في ظروف مادية قاسية، لكنها عرفت انتشارًا واسعًا، وتعدّت حدود الجزائر لتُوزّع في تونس والمغرب ومصر والحجاز، بل حتى في الهند وأندونيسيا. وقد كانت تصل بعض أعدادها إلى ما يزيد عن 4000 نسخة، رغم غياب التقنيات وندرة الوسائل.
فكرٌ يُبنى… وعقيدة تُصاغ
لم تكن الشهاب مجرّد جريدة، بل مدرسة فكرية جمعت بين علوم الدين، ومناهج التربية، ومسائل السياسة، ونقد المجتمع، ومتابعة قضايا الأمة الإسلامية.
تناولت المجلة في مقالاتها:
• إصلاح العقيدة وتنقيتها من البدع والخرافات.
• محاربة الطرق الصوفية المنحرفة.
• الدفاع عن العربية ومناهج التعليم.
• الرد على المستشرقين والمنصّرين.
• التعريف بتاريخ الأمة وأمجادها.
• التنديد بالاستعمار ومخططاته.
وكان ابن باديس يُعلي من قيمة «الإعلام الصادق»، ويقول: «إننا لا نريد من مجلاتنا وصحفنا أن تُمتع العين بالصور، ولا الأذن بالهزل، ولكن نريدها أن تملأ العقل علمًا، والقلب إيمانًا، والنفس عزة وكرامة.»
منابر العلم ومحرقة الجهل
كتب في الشهاب نخبة من علماء الجزائر:
• الشيخ عبد الحميد بن باديس
• الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
• الشيخ الطيب العقبي
• الشيخ مبارك الميلي
• وأساتذة وكتّاب من تونس ومصر والشام
وغيرهم من رموز الإصلاح الذين أداروا معركة تحرير الوعي قبل تحرير الأرض.
وقد كانت المجلة تنشر مقالات علمية معمقة، وتُخصص أبوابًا لتفسير القرآن، وشرح الحديث، والتاريخ الإسلامي، وتربية النشء، بل كانت تُشجع على الرياضة وتنشر إعلانات مباريات كرة القدم، مثل مباراة نادي قسنطينة ضد شباب عين البيضاء.
وحدة الوطن… في قلب المشروع الإعلامي
في عدد من أعدادها سنة 1936، نشرت الشهاب افتتاحية مشهورة بعنوان: «ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان»
وفيها يقول ابن باديس: «إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ قرون، وكتبوا آيات اتحادهم بدمائهم في ميادين الشرف… فمن ذا يستطيع أن يُفرّقهم؟!»
كانت المجلة تؤمن بأن الإسلام هو الرابط الذي يوحّد، والعربية هي الوعاء الثقافي للأمة، والجزائر هي الوطن الذي يُستعاد بالكلمة كما بالسلاح.
المصادرة… نهاية جسد لا نهاية رسالة
في 17 أوت 1939، أصدرت مجلة «الشهاب» عددها الأخير، وكان يحمل مقالًا ناريًا للأديب المصري «إبراهيم عبد القادر المازني» بعنوان: «العرب ثمانون مليونًا… ولكنهم لا يريدون أن يُخيفوا أحدًا»
دعا فيه إلى تحالف عربي إسلامي يُعيد للأمة كرامتها ويُواجه الاستعمار. فثارت ثائرة فرنسا، وصادرت العدد، وفرضت على المجلة التوقف.
لكن، ما لم تكن تدركه الإدارة الاستعمارية آنذاك، هو أن «الشهاب» لم تكن مجرد أوراق مطبوعة، بل كانت بذورًا وُضعت في صدور الشباب، فأنبتت مقاومين، وأحيت شعبًا من رماده.
الشهاب… البوصلة التي لا تُخطئ
صرّح الشيخ أحمد حماني، أحد تلامذة ابن باديس: «كانت مجلة الشهاب أعظم مدرسة كوّنتني، وشكلت وعيي، ومهّدت لي الطريق في فهم الإسلام الصحيح».
فهل هناك شهادة أعظم من هذا الأثر في تكوين العلماء والمصلحين؟.
الرسالة مستمرة…
اليوم، وبعد مرور قرن على صدور أول عدد من جريدة «المنتقد»، وبعد عقود من توقف «الشهاب»، نحن لسنا بحاجة إلى مجلات ورقية فقط، بل بحاجة إلى «شهاب جديد» يُنير العقول، ويُقاوم التيه الفكري، ويعيد للأمة بوصلة النهضة.
المجلات تموت، لكن الرسالة لا تموت… ومن سار على الدرب وصل.
من «المنتقد» إلى «الشهاب»: تطوّر الوعي الإصلاحي في صحافة ابن باديس
في حياة المصلحين الكبار، لا تكون الكلمة مجرّد حبر على ورق، بل تكون شُعلة، وسيفًا، ومرآةً… هكذا كانت صحافة الإمام عبد الحميد بن باديس. وحين نُقارن بين تجربتَيه الصحفيتين: «المنتقد» و»الشهاب»، ندرك أننا لا نقرأ جريدتين فحسب، بل نُطالع رحلة وعي، وصيرورة نضال، ونضجًا في الخطاب والمواجهة.
المنتقد… طلقةُ البداية
في 3 جويلية 1925، صدرت أولى أعداد جريدة «المنتقد»، كصرخةٍ مدوية في وجه الاستعمار الفرنسي، وكشفًا صريحًا لتواطؤ الإدارة، وتخاذل الطرقية، وتغريب التعليم، وتحريف العقيدة. كانت «المنتقد» جريئة، هجومية، نارية الأسلوب، لا تُهادن أحدًا.
قال فيها ابن باديس: «باسم الله، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحمّلها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون».
وقد تبنّت الجريدة شعارًا خالدًا: «الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء.»
وما لبثت الجريدة أن أثارت غضب الإدارة الفرنسية والطرقية معًا، فصودرت بعد صدور 18 عددًا فقط، لكنها زرعت وعيًا سيبقى حيًا لعقود.
الشهاب… الوعي في ثوبٍ ناضج
بعد توقف «المنتقد»، قرّر ابن باديس أن يواصل المعركة، ولكن بسلاحٍ أكثر عمقًا وهدوءًا. فكانت «الشهاب» سنة 1925، التي بدأت كملحق ثقافي ثم تحوّلت إلى مجلة فكرية رصينة.
إن كانت «المنتقد» تمثل قلب ابن باديس الغاضب، فإن «الشهاب» تمثل عقله المتزن.
ففي الشهاب، قلّ الهجوم، وزاد البناء. خفّ الصدام، وارتفع الإقناع. سكتت صيحات الغضب، لتحل محلها دروس الإصلاح، ومقالات التوجيه، ومحاور العلم والفكر والتاريخ.
ومن أعدادها نقرأ: «الإصلاح الذي ندعو إليه في العقيدة والفكر والخلق، لا ينحصر في المسلم الجزائري، بل هو رسالة لكل مسلم، بل لكل إنسان.» (الشهاب، مجلد 12/ج1)
أسلوبان… وغاية واحدة
كلا الجريدتين جسّدت وعيًا مقاومًا… لكنه مرّ عبر مراحل النضج. ففي المنتقد كانت الصيحات تُشعل الهمم، وفي الشهاب كانت الرؤى تُضيء الطريق.
تطوّر الرؤية… لا تغيّر في المبادئ
رغم تغيّر اللهجة والأسلوب، لم يتغيّر جوهر الدعوة عند ابن باديس. لا في العقيدة، ولا في الوطنية، ولا في النظرة للهوية. بل ازدادت الرؤية عمقًا، والطرح نضجًا، والكلمة حكمة.
قال الشيخ البشير الإبراهيمي عن ابن باديس: «لو شئتُ وصفه بكلمة واحدة، لقلت: كان أمة في رجل، وكان القرآن إمامه، والسنة طريقه، والإصلاح غايته».
ماذا نتعلّم من هذه التجربة الصحفية؟
1. أن الكلمة أقوى من السلاح حين تكون صادقة نابعة من قلبٍ مؤمن.
2. أن المواجهة قد تبدأ غاضبة لكنها لا تنجح إلا حين تنضج.
3. أن البناء بالعلم أعمق أثرًا من الهدم بالصوت.
4. أن الصحافة الحرة كانت ولا تزال معركة لتحرير العقول قبل تحرير الأوطان.
الختام.. مشعلٌ ينتقل من يدٍ إلى يد
من «المنتقد» إلى «الشهاب»، لم يكن الفاصل حبرًا على الورق، بل دمعٌ ودمٌ وفكرٌ وشهادةٌ على صدق رجلٍ حمل همّ أمته.
إننا اليوم بحاجة إلى «منتقد» جديدة توقظ القلوب، و»شهاب» جديد يُضيء دروب المستقبل… فهل من كاتبٍ يُكمل المسيرة؟
البشير الإبراهيمي…
السيف القلمي لجمعية العلماء في معركة الوعي
في كل جبهة من جبهات الإصلاح الباديسي، كان هناك «صوتٌ ثانٍ»، لا يقل وهجًا ولا عمقًا عن صوت ابن باديس…
كان يحمل القلم كالسيف، ويقذف بالحروف كالرماح، يجلد بها الجهل، ويطارد بها البدعة، ويفضح بها الاستعمار.
إنه العلامة محمد البشير الإبراهيمي، الخليفة الفكري والروحي لعبد الحميد بن باديس، ورفيقه في معركة «تحرير العقول قبل تحرير الأرض.
الصحافة عند الإبراهيمي: منبرٌ للثورة بلا دم
لم يكن الإبراهيمي مجرّد كاتب رأي أو أديب صاحب أسلوب بليغ، بل كان مفكرًا مناضلًا، يرى في الكلمة حقًا عامًّا، لا يقبل التأجيل ولا المساومة.
وإذا كانت الشهاب المنبر الأول الذي تجمّع حوله رجال الإصلاح، فإن البصائر كانت صوت الأمة في عهده، ومنبر الجهاد المدني الذي أفحم به خصوم الجمعية والمستعمرين معًا.
كتب الإبراهيمي في افتتاحية البصائر سنة 1954: «إنّ أولى ما يَفرضه الإسلام علينا، أن نكتب ما نعتقد أنه الحق، وأن نبلغ ذلك إلى الناس صريحًا جريئًا واضحًا لا نراعي فيه إلا ضميرنا وما يُمليه علينا علمنا.» (البصائر، العدد 200، سنة 1954)
نثرٌ كالشِّعر… وحقائق كالصواعق
من يقرأ للإبراهيمي يشعر وكأن الكلمات تنهض من سطورها وتصرخ في وجه القارئ: انهض! تحرّر! فكر! قاوم!
إنه الأديب الفذ، والمربي الحاد، والمفكر الجريء، الذي جمع بين البيان القرآني، والفكر الأصولي، والذوق العربي الأصيل.
كتب عنه الأستاذ مالك بن نبي في «مذكرات شاهد القرن: «كان الشيخ الإبراهيمي أقدر من يعبّر عن آلام الأمة وآمالها، بأسلوب قلّ نظيره في عصرنا.»
وقال الدكتور عمار طالبي: «البصائر في عهد الإبراهيمي لم تكن جريدة، بل كانت ساحة معركة… قلم الإبراهيمي كان جيشًا كاملاً في سطر واحد.»
قضايا حملها قلم الإبراهيمي في الشهاب والبصائر:
• محاربة الخرافات والبدع العقدية
كان البشير الإبراهيمي يرى أن البدع المنتشرة بين الناس تُعطّل العقل وتُحرف الدين عن مقصده، فكان يكتب بلهجة حادة ضد الممارسات الصوفية المنحرفة والطقوس الدخيلة، ويحث الناس على التمسك بالدليل والسنة.
• الدفاع عن اللغة العربية
جعلها الإبراهيمي من أبرز معاركه، واعتبر أن التفريط فيها تفريط في الإسلام نفسه، وكان يُهاجم سياسة فرنسة التعليم ويكتب عن وجوب حماية اللغة لأنها مفتاح العقيدة والهوية.
• فضح سياسة فرنسا الاستعمارية
عُرف عن الإبراهيمي أسلوبه الساخر أحيانًا والحاد أحيانًا أخرى في تعرية نوايا فرنسا، وهاجم قانون الإدماج، وانتقد أعيان السلطة الذين رهنوا أنفسهم للاحتلال.
• التصدي لفكر التغريب
نبّه الإبراهيمي إلى خطر الفكر المستورد الذي يُنقل دون وعي، وكان يحذر من الانبهار الأعمى بالحضارة الغربية دون فهمٍ لمقاصدها، مؤكّدًا أن نهضتنا تبدأ من ذواتنا لا من تقليد غيرنا.
• التحذير من التصوف المنحرف والطرقية
اعتبر الطرقية أكبر العوائق أمام الإصلاح، وكان يُحمّلها مسؤولية تغييب الناس عن الوعي بالدين الحقيقي، ودعا إلى إصلاح العقيدة وتنقية الإيمان من الخرافات.
الإبراهيمي في الشهاب: شريك في التحرير ومنسق النهضة
رغم أن بصمته الكبرى ظهرت في «البصائر»، إلا أن حضوره الفكري كان واضحًا منذ «الشهاب»، وخاصة في الحوارات الداخلية لجمعية العلماء، إذ كان ينسّق مع ابن باديس في ضبط الخطاب الفكري، ويُشرف على توجيه العمل الصحفي نحو قضايا الأمة الإسلامية عامة، لا الجزائر فقط.
إلى الشباب… تحمّلوا الأمانة
حين أُجبر الإبراهيمي على المنفى، ثم حُوصرت جريدة «البصائر»، ظل يكتب على الورق الذي يُهرّب من منفاه، كأن الكلمة كانت شهيقه وزفيره، لا مجرّد رأيٍ عابر.
واليوم، إن توقفت صحف الأمس… فلا ينبغي أن تتوقف الرسالة.
الكلمة كانت سلاح ابن باديس، والقلم كان درع الإبراهيمي… فمن يحمل الشعلة اليوم؟ هل نُبقيها مطفأة في زمن الغربة الفكرية؟ أم نضيء بها دربنا من جديد؟.
الكلمة التي لا تموت: المنتقد والشهاب… من جمر الورق إلى شعلة الوعي
في زمنٍ يُحسب فيه الأثر بعدد المتابعين، وفي عصرٍ صارت فيه الكلمات تُنسى أسرع من نُطقها، تعود بنا الذاكرة إلى مئة عام خلت… حيث لم تكن الكلمة ترفًا، بل كانت معركة، ولم يكن القلم أداة للتعبير فقط، بل كان خنجرًا في خاصرة الاستعمار.
كان الاستعمار الفرنسي يملك المدافع، ونحن نملك «المنتقد».
كان يفرض الإدماج، ونحن نُسطّر «الشهاب».
وبين الرصاص والحبر، انحاز ابن باديس وإخوانه إلى الورق… ذاك السلاح الضعيف في الظاهر، المزلزل في العمق.
الصحافة التي أنجبت ثورة
ما فعله ابن باديس ورفقاؤه عبر «المنتقد» و»الشهاب» ليس مجرد صحافة، بل كان مشروعًا إصلاحيًا متكاملًا، يبدأ من العقيدة وينتهي بتحرير الوطن.
في زمن مُطبق بالظلام، لم يكن صوت الأحرار إلا في الصحف… هناك نَفَث العلماء نيران غيرتهم، وبثّوا آهات شعبهم، وصاغوا جُملاً أقلقت المقيم العام الفرنسي، وأربكت الكنيسة الكولونيالية، وأزعجت سدنة الزوايا المنحرفة.
لم يكن ابن باديس يكتب للتسلية، ولا البشير الإبراهيمي يُحرّر افتتاحياته ليُعجب بها المثقفون… كانوا يكتبون وهم يتهيّأون للموت. كل عدد من «المنتقد» أو «الشهاب» كان مرشحًا لأن يُصادر، وكل كاتب فيها كان مشروع معتقل.
ومع ذلك… كتبوا!
أثر لا يُمحى
من قال إن الجهاد لا يكون بالقلم؟
من قال إن الكلمة لا تُحرر أوطانًا؟
لقد أثمرت تلك الحروف:
• وعيًا جزائريًا جديدًا يُميّز بين الدين والخرافة.
• أجيالًا من التلاميذ صاروا قادة في الثورة التحريرية.
• مقاومة ثقافية هي التي مهّدت لميلاد أول نوفمبر.
بل إن فرنسا، رغم جبروتها، حجبت العدد الأخير من «الشهاب» سنة 1939، لأنها لم تحتمل أن يُقال فيها: « العرب ثمانون مليونًا، ولكنهم لا يريدون أن يُخيفوا أحدًا…»
فهل بعد هذا يُقال إن الحبر أضعف من الدم؟.
رسالة إلى الجيل الجديد: لا تمسك القلم بيد مرتعشة
يا من تعيش في زمن الانفتاح، حيث تصلك المعلومة قبل أن تفكر فيها، يا من تنشر ما تشاء دون أن يراقبك رقيب…
هل استشعرت يومًا ثِقل الكلمة؟
هل سألت نفسك: ماذا لو بعث الله ابن باديس اليوم، أكان سيغرد أم يُناضل؟
أكان سيكتفي بالتحليل من خلف الشاشات؟ أم يُشعل مجددًا جمر «المنتقد» ووهج «الشهاب»؟
إن الصحف تموت إن كتبنا فيها لمجدنا الشخصي، وتبقى حيّة إن كتبنا للأمة.
وإن المجلات تُصبح أرشيفًا إن لم نجدّد فصول رسالتها في واقعنا.
لا نُحيي الذكرى… بل نُحيي العهد
في ذكرى مئة عام على «المنتقد» و»الشهاب»، لسنا نذرف دموع الحنين، بل نوقّع من جديد على وثيقة الوفاء.
نوقّعها باسم كل قلمٍ مؤمن، وكل عقلٍ حر، وكل نفسٍ تأبى أن تركع للباطل.
ونقول كما قال ابن باديس: «الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء.»
فهل من وريث لهذا القلم؟
هل في هذا الجيل من يُجدد عهد الشهاب؟
هل في هذه الأمة من يكتب لا ليُعجب، بل ليُغيّر؟
المنتقد توقفت… الشهاب غابت…
لكن الكلمة ما تزال حيّة، فينا، بيننا، تنتظر من يُطلقها من عقالها. فيا أهل القلم… إلى المعركة!
الختام: في مئوية المنتقد والشهاب… لا نُحيي الذكرى، بل نُحيي العهد.
كلمة ختامية
ما بعد «الشهاب»… شعلة تنتظر من يُشعلها
نطوي صفحات هذا الملف، لكن لا نطوي الصفحة على «المنتقد» و»الشهاب»… فالكلمة التي وُلدت من رحم الاستعمار، لا تزال تنبض وسط الضجيج، تبحث عن قلبٍ صادق، وعقلٍ حر، ويدٍ لا ترتعش.
ففي مئة عام، تغيّر كل شيء:
انهار الاستعمار، تبدّلت الحكومات، تغيّرت وسائل الإعلام…
لكن بقي السؤال واحدًا: هل ما زالت الكلمة قادرة على التغيير؟
وهل ما زال في هذا الجيل من يكتب لا ليُعجب، بل ليُوقظ؟
من يُصلح لا ليُصفّق له، بل ليُنير الطريق لمن بعده؟
أين ورثة ابن باديس؟
أين تلاميذ البشير الإبراهيمي؟
أين أقلام الصحوة، وكُتاب النهضة، ومجاهدو الحرف؟
لم نعد بحاجة إلى أوراق صفراء قديمة، بل إلى أقلام خضراء تُحيي الأمة من جديد.
لم نعد نبحث عن عدد جديد من «الشهاب»، بل عن ضميرٍ جديد يكتب كما كانوا يكتبون: لله، ثم للوطن.
فلنجعل من ذكرى «المنتقد» و»الشهاب» موعدًا لا للحزن على الماضي، بل للانطلاق نحو مستقبلٍ تصنعه الكلمة الحرة، والفكرة المؤمنة، والرؤية النقية.
«الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء»… شعارٌ لم يمت، بل ينتظر من يرفعه من جديد.