وقفة مع معضلة الذات في مسيرة النهضة
المسعود سراي إن لقاء الذات العربية المترهلة بالذات الأوروبية هو سبب انبعاث الحس النهضوي وطرح إشكاليته فلقد ضل العالم العربي والإسلامي خارج التاريخ دهراً طويلاً منقطع الصلة بالعالم الخارجي الغربي الذي كان قد انبثقت فيه حياة جديدة متغيرة ومتجددة . عالم سمي “دار إسلام” بمقابل “دار كفر ” انطفأت فيه جذوة الاتصال والفتح والمغامرة …

المسعود سراي
إن لقاء الذات العربية المترهلة بالذات الأوروبية هو سبب انبعاث الحس النهضوي وطرح إشكاليته فلقد ضل العالم العربي والإسلامي خارج التاريخ دهراً طويلاً منقطع الصلة بالعالم الخارجي الغربي الذي كان قد انبثقت فيه حياة جديدة متغيرة ومتجددة .
عالم سمي “دار إسلام” بمقابل “دار كفر ” انطفأت فيه جذوة الاتصال والفتح والمغامرة منكفئا على جغرافيته ومتوقفا على موروثه منسحبا كلية من الدنيا والدنية فلسفته في الحياة قائمة على الخمول مستسلما للأقدار اقصى ما أبدعه بعد دولة الموحدين تكرارا وليس إبداعا من شروحات المتون والحواشي كأنه لم يعد له هدف حيث اصبح فيها شبيه المريض الذي استسلم للمرض وفقد شعوره بالألآم وماتت فيه الآمال والأماني لدرجة أن المرض صار جزء من مكونات كيانه ،سلم لسانه للأعاجم وروحه للماضي الميت وليس الحي واستغرق في الخرافات والمزاعم والتراجم والافتخار ببلاغة سجع المغازي والملاحم، مع انه كان في تاريخه مجد عريق و تليد حافل بالانتصارات والاختراعات والتغيرات ويملك تراث عقلي وفكري وأدبي وديني واجتماعي عظيم ساد به الدنيا لقرون عديدة .
مواطن الداء والألم
ومع مطلع القرن الثامن عشر زحفت عليه جيوش الغزاة والمحتلين ففاق على أنه في كثير من السبات بل انه مشرف على الممات، وأن به علة هو في مذلة فإن لم يسرع بمعالجتهما سيفقد الملة والغلة وأرشدته حالته إلى وجوب الاستماع لمن يشخص له مرضه وأسبابه، ومن يحدثه عن الجهالة والدعة التي استقرت على وسادته ، فلم يلبث أن حاول الاستيقاظ من سباته العميق.
وأن يسعى للبحث عن عوامل أمراضه بالتدقيق التي أنتجت هوانه وانحطاطه الوثيق ،فكان لابد أن يتحسس مواطن الداء والألم لعله يجد أدوات العلاج ،وبهذه اليقظة المفاجئة بعد سهاد عميق بدأت صحوة العالم الإسلامي والعربي بحقبة تاريخية أطلق عليها بداية النهضة ولكن ماهي النهضة؟
أننا نستعمل لفظة انهض كفعل أمر حتى يتحول الى ممارسة للجالس أحيانا وأخرى للراقد ولا شك أن الجلوس والرقاد لا يكون إلا في حالين أما طلبا للدعة والكسل أو للضعف والمرض والحالين معا كان وضع أمتننا .
لقد أدرك البعض نتبجة الصدمة أن المجد والفخر والقوة الذي كان يدعيه بعض شيوخها وزعمائها وهم غارقون في الأوهام مجرد ادعاءات وأحلام وان هذا الحال العارض لم يكن أبدا حالها ،ووعوا أن هناك مرض يجب تشخيصه حتى يتسنى لهم علاجه .
إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا (المرض) بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا عنه فكرة سليمة ، فإن الحديث عن المرض أو الشعور به لا يعني بداهة وجود علاج نهائي .فالحديث لابد أيضا أن يكون عن المريض نفسه بالإضافة الى البيئة التي اعتراه فيها المرض والمريض معا.
وهذا ما يعني أن هناك ثلاثة عناصر ضرورية يجب الانتباه لها بعمق وهي المريض والمرض وبيئتهما المكانية والزمانية وهي كلها شروط ضرورة الوعي بها كفيل لتحقيق علاج فعال وناجع.
الحالة الراهنة
أن نقطة الانطلاق هي أن المائة عاماً الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي يوجد فيها العالم العربي اليوم ،حيث أنه رغم انخراطه في مشاريع متعددة في سياق التحرر كالمشروع القومي للبعث العربي أحيانا والإسلامي أحيانا أخرى٫ فإنه انتهى إلى فشل ذريع على جميع الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية حيث رغم رتوشات التمدين والمأسسة بقي حبيس القطرية الضيقة والقبلية البدائية المتخلفة فإنه لم ينجح في الارتقاء بالإنسان من كونه ابن قبيلة أو جهة أومذهب الى كونه مواطن له حقوق وواجبات اتجاه حوزة الوطن والأمة…
ورغم زخم أدبيات النهضة التي طرحت جملة من الإشكاليات تتعلق بوصف المرض والبحث عن العلاج وفق سياق التحرر من الغير القوي والمسيطر جعل قراءة الذات في عجل من خلال التاريخ الموروث في بطون الكتب من جهة ومن خلال مقارنة الواقع بواقع الغير سطحية وشكلية.
أن مشكلة النهضة في الحقيقة كما رأى مالك بن نبي تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية وجوهرية هي مشكلة الإنسان ومشكلة التراب، ومشكلة الزمن فهذا الثالوث أضلاعه المكونة لهويته تكوينا بنيويا يفرض الاهتمام بهم بنفس الدرجة في التشخيص والمعالجة يقول مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة:( نحن في العالم الإسلامي نعرف شيئا يسمى الوقت لكنه الوقت الذي يتناهى الى عدم ولسنا نعرف الى الآن فكرة الوقت التي تتصل اتصالا وثيقا بالتاريخ ) .
طرح إشكالية النهضة
إن استمرار الانفصال بين الواقع الذي نحن مستمرين عليه منذ طرح إشكالية النهضة والمثال الذي نطمح أن نكونه والذي دوما ندندن عليه بحماس عاطفي نابع من معضلة خلل العلاقة بين الإنسان والتراب والزمن. التي لم تصل أبدا الى مستوى التفكير العميق في تصوراتنا لهم فلكي نقيم بناء نهضة لا يتحقق ذلك باستيراد تراكمي لمنتجات النهضة الغربية أو المدنية الحديثة على مستوى التصور والسلوك ، وإنما بأن نفكر بحل المشكلات الثلاث المرتبطة ارتباط عضوي وهن مشكلة الإنسان ومشكلة الأرض ومشكلة الزمن.
إن المشروع النهضوي لابد أن يبدأ بتغيير وعي الإنسان بذاته وعيا واضحا وعميقا لتتكشف له كل العورات والمعيقات والمكبوتات الدفينة التي تجعله يتوهم أنه إنسان سوي وهو في الحقيقة فاقد لكل أعراض السلامة العقلية والنفسية في تصوره لنفسه ولمحيطه ولزمانه فهل من المعقول أن يعيش هذا الإنسان في الزمن الواقعي الآني الذي هو في القرن العشرين “بتصور” لنفسه من خلال سرديات عصور الانحطاط التي تكلست في الأبدان والأذهان .
أن النهضة مشروع جماعة تجمع أمال أفراد مرتبطين عضويا وجماعيا وليست نهضة فردانية وعليه فان الانخراط في الجماعة وتنمية الحس الجمعي بالنقد والتحليل والتبصر والتفكير الجماعي المبدع المنظم لمشروع مجتمع من أهم شروط تحقيق النهوض ولكي يتحقق التغير في الأرض التي هي محيطنا وبيئتنا يجب أن يتناسب طردا في نفس الوقت مع تحققه في ذواتنا(وأنفسنا ) بكل ما تحمله النفس من أعماق وأبعاد وإلا فإن المسمى الإنسان المسلم عامة والعربي خاصة لوضعيته المستغرقة في التخلف والهوان لانعدام مشروع التقدم الحضاري والقوة الرادعة في عالم القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية. لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين، من حيث إنه مكلف برسالة عالمية منذ القرن السادس ميلادي ..اللهم إلا إذا كان قد تخلى عن مهامه فان سؤال النهضة هنا لم يعد إلا ماديا كما يتصور البعض .
سنن التغيير
أن منهاج الرسالة يقتضي التغيير في النفوس أولاً .لقوله تعالى “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “، وعندها يجب على الإنسان المسلم الذي لابد أن يأمل النهضة الحضارية أن يعرف نفسه وغيره ووضعه لاشك أن الوعي بالذات يتم من خلال مفاهيم ناتجة عن تفاعل مع الأخر أو الغير هذا “المغاير” يكسبني تصورات عن ذاتي وأنا مضمون اللغة التي يعرفني بها و من خلالها بداية من الاسم الذي يشير به لي ويعرفني ، ونهاية بالمفاهيم التي تتسرب من بين الكلمات والجمل التي تمارس بها مشكلات الحياة حقيقية كانت اوغير حقيقية ولكنها فاعلة ومن هنا ينمو معي حالة “وعي لذاتي “وأنا أتدرج مع مراتب العمر يتدرج معي وعي لذاتي وتكشفها لي مادام تجربة الحياة مستمرة ….
فكذلك المجتمعات لا يمكن أن تتغير إلا من خلال فحص ومحص التصورات الجمعية التي يحملها الأفراد عن أنفسهم وفحص المفاهيم التي تتصورها بها المجتمعات المختلفة والمغايرة لها وأيضا مستمرة لا تعرف الثبات ومادام التغير متواصل فان الطموح في النهضة أيضا متواصل ..
أن اهم المشاريع النهضوية كانت المشاريع الإسلامية بالإضافة إلى المشاريع القومية والقطرية فان المتأمل في المشاريع التي بدت في الحركات الدينية الإصلاحية منذ بداية القرن التاسع عشر يجدها لم تكن قراءتها للذات الإسلامية قراءة نقدية تحليلية متأنية لأن إكراه الواقع المزرى والهوان المستشري وهول الفارق الحضاري جعلها تتعجل الحل التوفيقي بالرجوع الى الماضي واكتساب ما أمكن مظاهر التحضر والتمدن من بعث التعليم وتحرير المرأة وتأسس المؤسسات المدنية الحديثة
ولذلك فإنه نتيجة ضغط الأحداث المتسارعة في العالم وإكراهات الواقع المتأزم أدى إلى عدم تحقق المنشود نتيجة خلل في قراءة الذات بعمق وانعدام الابتكار والتسرع والسطحية وتغليب أهواء الاستبداد والسيطرة بدل الحرية كل ذلك أنتج أنظمة متعددة الأشكال قومية جمهورية وملكية حديثة في الظاهر ولكنها واقعيا مرتهنة كلها للتصور الرأسمالي وللنظرية الليبرالية .
كينونة إنسانية
والخلاصة المفيدة أنه رغم مرور ما يقارب القرن فان إشكال من نحن ؟! مازال مجرد طرحه يثير جدلا واختلافا إلى حد التطاحن والتقاتل فعوض أن يكون قراءة الذات تتم من خلال وعي بالموجود في مشاعرنا وعواطفنا كينونة إنسانية وفي واقعنا الحياتي المتردي فإننا سرعان ما ننزل الى تطاحن عرقي مقيت ليظهر لنا في الأخير أن قراءة الذات معضلة حقيقية حتى أصبحنا لا نعرف من نحن ولا نعرف ماذا نريد أن نكون .
لقد كانت الأولوية في النهضة في البداية مرتبطة بالتغيير واستيعاب الإبداعات الحضارية هي التيار الغالب فكان مضمون النهضة هو ضرورة تحقيق الندية وذلك ما جعل معضلة قراءة الذات غير شفافة فنتج عن ذلك أما النزوع الى جلدها والنفور منها والعمل على نكرانها ويتجلى ذلك في التيار الموالي للغرب ذهنيا ولسانيا وعاطفيا الى حد العمالة ونكران الخصوصية أو النزوع الى مدحها والتطرف في الذاتية الى حد الرفض التام لاي اختلاف ذاتي
وعلبه فان الوعي المفكك لمضامين الذات التي هي نحن علبها لتكشف مكنوناتها ككائنات إنسانية قبل أي شيء هي من يضعنا في سكة النهوض الحضاري الصحيح .