ركن تاريخ وتراث/ البيوتات العالمة بالجزائر – المنجلاتيون الزواويون –
د. عبد القادر بوعقادة */ المنجلاتيون ينتسبون إلى منجلاتة التي تعتبر فخذا من عمارة تعود إلى قبيلة زواوة الكبرى، هذه الأخيرة التي تضاربت الآراء في نسبتها إلى صنهاجة أم كتامة؟ وإذ لا يهمنا الخوض في هذا على اعتبار قول البعض بأنّ: « الأنساب علم لا ينفع وجهالة لا تضر»، فإنّ تتبع الآثار العلمية للمنتسبين إلى»منجلاتة» …

د. عبد القادر بوعقادة */
المنجلاتيون ينتسبون إلى منجلاتة التي تعتبر فخذا من عمارة تعود إلى قبيلة زواوة الكبرى، هذه الأخيرة التي تضاربت الآراء في نسبتها إلى صنهاجة أم كتامة؟ وإذ لا يهمنا الخوض في هذا على اعتبار قول البعض بأنّ: « الأنساب علم لا ينفع وجهالة لا تضر»، فإنّ تتبع الآثار العلمية للمنتسبين إلى»منجلاتة» ستجعل منها قرينة ذات شأن لا تقل عن بيت المشذاليين قيمة علمية ولا عن آل المقريين مكانة فقهية مميزة . فقد انتسب إلى منجلاتة عدد لابأس به من العلماء الفقهاء النبهاء، وإذا لن يكن بإمكاننا حصر المكوّن العلمي لمنجلاتة، وذكر كل فقهائها وعلمائها، فإنّ الخوض في نماذج من المنتسبين إليها ستحيلنا على أبرز النجباء وجِلَّة من العلماء من أمثال علي بن عثمان المنجلاتي الزواوي البجائي، الذي أخذ عن عبد الرحمن الوغليسي، وتتلمذ عليه الثعالبي حينما رحل هذا الأخير إلى بجاية لأجل التفقه، وقد سجّل الثعالبي شهادته على هذا الفقيه، فحلاّه بالشيخ الإمام الحافظ، في حين ذكر التنبكتي بأنّ والد علي بن عثمان هو المسمى بأبي منصور والذي بلغ درجة مفتي بجاية هو من كان شيخا لعبد الرحمن الثعالبي، ممّا يدفعنا إلى مزيد من التحقيق في عدد من العلماء والبيوتات العالمة.
ومهما يكن فإنّ من ورث علم الفقيه علي بن عثمان كان ابنه المنصور أبو علي الذي يعدّ من أبرز نجباء هذا البيت، وقد كان حيًا في حدود سنة 850 هـ/1447م، كما تذكر المصادر معاصرته لأبي عبد الله المشذالي. حيث نال المنصور أبو علي الشهرة وذيوع الصيت في الفتوى ببجاية وحواضر المغرب، وصار إمامًا فقيها وعلامّة حُجّة، وإنّ فتاويه بلغت من القيمة حتى باتت معتمدة ثمّ صارت مدونة في مصنفي المازونية والمعيار وهما المصنفان البارزان في مسائل الإفتاء على النوازل، ومن خيرة المدونات النوازلية ببلاد المغرب والمعوّل عليهما في الكتابة التاريخية. كما يبرز من بيوتات منجلاته العلامة محمد بن يعقوب بن يوسف الزواوي المكنى بأبي عبد الله المنجلاتي (ت730هـ/1330م) الذي كان حافظًا لمسائل الفروع وفقيها، وتولى بفضل ذلك قضاء بجاية ثم عُزل – رغم فقهه وفضله – ذلك أن من خصائص القضاة ببلاد المغرب أنهم كانوا لا يستقرون فيعزلون أو يفرون بحكم تميزهم وقوة شخصيتهم وإظهارهم للعدالة التي لم تكن لتصب في مصلحة عدد من الأمراء عصرئذ-
هذا الفقيه الذي تذكره المصادر صديقًا للعلامة الفقيه المميّز ناصر الدين المشذالي، ويشير التنبكتي في النيل بأنّ الفقيه محمد بن يعقوب سليل بيت علم ورث علمه عن والده يعقوب بن يوسف، الذي يظهر أنّه كان على قسط كبير من الفقه، باعتباره سليل المدرسة البجائية التي كانت تزخر في هذا العصر بجلّة من الفقهاء ذوي النفوذ العلمي. ثمّ استمر هذا البيت أيضا في العطاء والنشاط من خلال الابن والحفيد يعقوب أبو يوسف الذي حلاّه التنبكتي بالفقيه المعظم والخير الفاضل المقتفي آثار أبيه وجده في ذلك .
وكانت المصادر قد أشارت إلى أبرز وأشهر شخصية عالمة تعود إلى منجلاته الزواوية البجائية هو أبو الروح عيسى بن مسعود بن منصور المنجلاتي الحميري الزواوي المالكي (664 – 743هـ)، والذي يظهر من خلال تتبع ترجمته واقتفاء آثاره ومدوناته بأنّه كان ذا كفاءة أثّر بها على الحركة الفقهية ببلاد المغرب وحتى الأندلس، كما أثّر في باقي البقاع التي مكث بها وهو يفعّل عامل الرحلة، من حيث أنّه تفقه على علماء ببجاية وفقهائها، ثم كانت له الرحلة إلى الإسكندرية – وهذه الحاضرة تحتاج جهدا من الباحثين لإحصاء عدد الفقهاء الذين شدّوا الرحال نحوها من بلاد المغرب بالنظر لقيمتها العلمية ووفرة مشايخ الفقه بها وسندها العالي- ثم عاد أبو الروح فاستقر بقابس لتولى القضاء بها ، ثم رجع ثانية إلى الإسكندرية واستقر بعدها بالقاهرة، وصار يعلم الناس هناك بجامعها الأزهر الشريف، كما تشير أخبار ابن فرحون – صاحب الديباج- إلى رحلته نحو بلاد الشام وتوليه هناك قضاء دمشق لسنتين ونابلس مثلها، ليعود بعدها إلى مصر فينقطع عن الحكم ويشتغل بنفسه، وينكبّ على التصنيف وينشط على التدريس، فدوّن لنا مصنفات عدّة ذات أهمية في مجال الفقه و الحديث والمناقب والقصص والأخبار، وكانت له اليد الطولى في علم الفقه والأصول والعربية والفرائض، وقد انكبّ على شرح صحيح مسلم في مصنّف سمّاه «إكمال الإكمال»، وهو يقع في أثنى عشر جزءًا جمع فيه أقوال المازري وعياض والنووي وابن عبد البر والباجي وغيرهم، ثمّ شرح مختصر ابن الحاجب في سبع مجلدات، واختصر جامع ابن يونس على المدونة.
ويقال أنّه ناظر ابن تيمية، مثلما كتب في التاريخ مجلدات، وإنّ أشهر ما عرف به أبو الروح هو شرحه صحيح مسلم الذي سماه «إكمال الإكمال». حيث يدخل هذا المصنف الحديثي ضمن سلسلة الشروح والمختصرات، ذلك أنّ الفقيه المازري كتب سابقا مصنفه « المعلم بفوائد مسلم»، ليأتي القاضي عياض فيكمله بموسوم «إكمال المعلم بفوائد مسلم» للنقص الذي رآه، ثم جاء أبو الروح عيسى المنجلاتي فصنف «إكمال الإكمال»، ليأتي بعدهم العلامة محمد بن يوسف السنوسي التلمساني فيؤلف مكمل إكمال الإكمال، وهي حلقات درس وتصنيف رائدة ببلاد المغرب عموما. وهكذا حاز أبو الروح المنجلاتي رياسة الفتوى بالديار المصرية والشامية، ورُسّمت وفاته سنة 743هـ/1343م بالقاهرة. ولم تكتف المصادر عن ذكر علماء بجاية المنجلاتيين إلى زمن متأخر، ففي رحلة ابن زاكور الفاسي (ت 1120ه/1708م) الموسومة بــ «نشر أزاهر البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان من فضلاء أكابر الأعيان نحو حواضر المغرب الأوسط (الجزائر) «يذكر طلبه الإجازة من الفقيه عمر بن محمد المنجلاتي (أبو حفص) سنة 1094/1682م، الذي يظهر أنه كان متميزا بخصال السند العلمي الموصول. وهكذا كانت بجاية حاضرة المغرب الأوسط كما باقي المدن، تزخر علما وتفوح فكرا وتنجب العلماء الذين طالهم النسيان ليفرض علينا -اليوم- تجاههم الذكر والبيان.
* جامعة البليدة 2-