في ذكرى التأسيس كيف شكك بعض الصحافيين والمؤرخين في دور ابن باديس؟ !
أ. عبد الحميد عبدوس/ تحل يوم الاثنين 5ماي الجاري الذكرى الرابعة والتسعون لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (5 ماي 1931ـ 5ماي2025) ويشكل هذا الحدث محطة مفصلية في تاريخ الجزائر الحديث، ويرتبط كذلك،بشكل وثيق، بالدور النهضوي الوطني والإصلاحي للإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ الذي تؤكد أغلب المصادر التاريخية، من كتب وشهادات …

أ. عبد الحميد عبدوس/
تحل يوم الاثنين 5ماي الجاري الذكرى الرابعة والتسعون لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (5 ماي 1931ـ 5ماي2025) ويشكل هذا الحدث محطة مفصلية في تاريخ الجزائر الحديث، ويرتبط كذلك،بشكل وثيق، بالدور النهضوي الوطني والإصلاحي للإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ الذي تؤكد أغلب المصادر التاريخية، من كتب وشهادات ومذكرات، أنه مؤسس جمعية المسلمين الجزائريين، وقائد مسيرتها إلى أن تغمده الله برحمته في 16 أفريل 1940. غير أن هناك روايات وكتابات تصادم هذه الحقيقة وتنشر وجهة نظر مغايرة لها. على سبيل المثال، وبمناسبة إحياء الذكرى الواحدة والثمانين لتأسيس الجمعية، نشرت جريدة «ليبرتي» (Liberté) التي كانت تصدر باللغة الفرنسية، في عدديها الصادرين يومي الجمعة 4 والسبت 5 ماي 2012، وكذلك في يومي الجمعة 11 والسبت 12 ماي 2012، مقالا في حلقتين تحت عنوان غريب ومثير للجدل الذي ترجمته كما يلي: «تكريم القصبة لجمعية العلماء ومؤسسها الشيخ عمر إسماعيل»، بتوقيع الكاتب والإعلامي الراحل ،عبد الحكيم مزياني. كنت قد كتبت (أنا، عبد الحميد عبدوس) ردا على هذا المقال، تحت عنوان: «ماذا وراء محاولة اختطاف جمعية العلماء؟!» نشر بجريدة «البصائر» يوم 23 ماي 2012، ولكن الكاتب الراحل عبد الحكيم مزياني، أعاد نشر مقاله في 12أوت 2015 بجريدة «ليكسبريسيون» (lexpression) الصادرة بالفرنسية، مدعيا أن جمعية العلماء تم تأسيسها من طرف علماء جزائريين من الجناح الصوفي، على رأسهم عمر إسماعيل ومولود حفيز.
للتذكير، فقد توقفت جريدة «ليبرتي» في 14 أفريل 2022، بعد ثلاثين سنة من الصدور، بعدما اختار ممولها الرئيسي، يسعد ربراب، رجل الأعمال المشهور، وأغنى رجل في الجزائر، الانسحاب منها، معلنا أنه كان يبيعها «بالخسارة». جريدة «ليبرتي» تأسست سنة1992، كانت من أكبر اليوميات الجزائرية الصادرة باللغة الفرنسية، ومن أشهر منابر التيار ألاستئصالي في سنوات الأزمة الوطنية التي اصطلح على تسميتها «العشرية السوداء». وقد استفادت طوال سنوات، من التدفق السخي للإشهار العمومي والخاص عليها.
لكن، قبل 38 سنة من صدور مقال الكاتب والإعلامي عبد الحكيم مزياني، في جريدة «ليبرتي» (Liberté) وهو كاتب من جيل الاستقلال، ومن أصدقاء أبناء الشيخ الراحل عمر إسماعيل، كان أحد أبرز علماء الجزائر، والعضو القيادي في المكتب الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأحد معاصري الشيخ ابن باديس، ألا وهو المؤرخ العلامة، الشيخ أحمد توفيق المدني، رحمه الله، قد أنكر دور ابن باديس في تأسيس جمعية العلماء . حيث أدعى في الجزء الثاني من كتابه «الحياة كفاح» المخصص لمذكراته، والصادر سنة 1974، أنه هو مؤسس جمعية العلماء، مؤكدا أنه: «منذ احتفال فرنسا بالذكرى المائوية لاحتلال الجزائر أخذ يفكر في إنشاء جمعية إسلامية صادقة قوية هادفة تحيي أمجاد الجزائر تبث في أوساطها الإسلام والعربية والوطنية الصادقة، وأنه جسد هذه الفكرة بمساعدة عدد من أعيان العاصمة وهم: الشيخ محمد العاصمي، الذي يصفه بأنه «شيخ عالم أديب واسع الاطلاع كثير الألوان يسير مع كل قوم حسب أهوائهم»، والسيد عمر إسماعيل الذي يقول عنه: «كان عاميا ذكيا طموحا قليل المعلومات غزير الأفكار، دؤوب العمل، يقال أنه أثرى خلال الحرب العالمية الأولى من تجارة ما وراء الستار»، والسيد محمد عبابسة يصفه بأنه: «شاعر فحل لا يشق له غبار باللغة العربية في لهجتها العامية. وكان مصلحا لا يستهان به، وكان يمتاز بنشاط كبير وسرعة حركة عجيبة ويتحمس فيلقي به الحماس في متاهات بعيدة». ثم يقول: «كنا أربعة رجال لا خامس لنا، انتحينا من نادي الترقي زاوية قرب الشرفة، وجلسنا صامتين مهمومين، نشرب كؤوس شاي أترعت سكرا، إنما كنا نحتسيها وكأنها عصارة الشجرة الملعونة في القرآن. ومزقت حجاب الصمت الذي كان مخيما علينا،وقلت: أيها الإخوان! أرأيتم ألما كهذا الألم، أم أحسستم كمدا كهذا الكمد؟ فإلى متى الصبر وأين منتهى هذا السكوت الطويل.كان الثلاثة الجالسون هم الشيخ محمد العاصمي، والسيد عمر إسماعيل، والسيد محمد عبابسة. قال العاصمي، وكان له فضل السبق في هذا المقال: لندعها إذن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.فتفاءلنا خيرا بالاسم واتفقنا عليه. قال عمر إسماعيل: علي أنا أن أقدم هدية ألف فرنك (أكثر من 1000 دينار جزائري ـ بحساب سنة 1974) لمن يتوصل إلى انجاز هذا المشروع.
قلت للعاصمي: إذن اكتب في الشهاب وبشر بالموضوع وأعلن عن جائزة الألف فرنك. واستنهض الهمم. قال: سأفعل. وفعل وأحدث المقال تأثيره المطلوب. وجاءت مجلة الشهاب رسائل عدة من علماء وطلبة فضلاء يسألون عن النبأ العظيم، فأحالها الأستاذ الأكبر ابن باديس علينا.
في فيفري 1931 الموافق رمضان 1343 نشر مقال بجريدة البصائر تحت عنوان: «هل من حازم يوفق لتأسيس جمعية العلماء؟» يعلن عن رصد جائزة بقيمة ألف فرانك لمن يوفق من العلماء لتأسيس جمعية تحت اسم جمعية العلماء. قلت للجماعة: هناك شرط أساسي جوهري يجب احترامه إذا جمعنا حقا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ألا وهو جمع العلماء من كل الطوائف والمذاهب الموجودة بالجزائر حتى تمثل وحدة وطنية حميمة وتقدمنا لميدان العمل. فبعد نشر المقال وبعد جمع ردود الفعل الأولى.
وعدت لعقد اجتماع بسيط يشمل أصحاب الغيرة الإسلامية والنخوة العربية من رجال النادي أمثال محمد بن المرابط ،محمود بن ونيش، محمد ازميرلي، الحاج ماماد المانصالي، محمد بن الباي، محمد علي عباس التركي، قدور بن مراد رودوسي، محمد بن الحفاف. فاجتمعنا في قاعة المجلس الإداري الفسيحة، وكان حولي الإخوان الثلاثة العاصمي وعمر إسماعيل وعبابسة. فشرحت لإخوان النادي فكرنا وبينت لهم عزمنا على الشروع في تأسيس جمعية العلماء وأطنبت في ذكر المبادئ والأسس التي تقوم عليها الجمعية.»
أوردنا هذا النص الطويل من مذكرات الشيخ أحمد توفيق المدني، ليتبين القارئ أن الشيخ ابن باديس،عليه رحمة الله ورضوانه، قد تعرض لمحاولة الانتقاص من دوره، والسطو على مجده، حيا وميتا، سواء أجاء ذلك من الأعداء أو من الرفقاء، لكن الله العلي القدير لا يضيع عمل أوليائه الصالحين.
أما الشيخ محمد خير الدين، أحد مؤسسي الجمعية ونائب رئيس الجمعية في عهد الشيخ الإبراهيمي ،من 1946 إلى 1956، إلى جانب الشيخ العربي التبسي، فيقول في الجزء الأول من مذكراته: «وجه بن باديس في الشهاب في نوفمبر 1925 دعوة إلى العلماء المصلحين جاء فيها: إننا نرغب من كل من يستحسن هذا الاقتراح ويلبي الدعوة من أهل العلم أو محبي الإصلاح أن يكاتبنا مبينا رأيه ويرسل إلينا على عنوان الجريدة حتى إذا ما رأينا استحسانا وقبولا كافيا شرعنا في التأسيس والله ولي التوفيق».
ويضيف: كنت أنا (الشيخ خير الدين) والشيخ مبارك الميلي بمكتب الإمام ابن باديس بقسنطينة يوم دعا الشيخ محمد عبابسة وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العاصمة، وكلفه أن يختار جماعة من الذين لا يثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة أو مخاوف أصحاب الزوايا وتتولى هذه الجماعة توجيه الدعوة إلى تأسيس الجمعية بنادي الترقي بالعاصمة. وقد انطلق محمد عبابسة في ذلك اليوم إلى الجزائر العاصمة ونفذ ما طلبه منه الإمام ابن باديس وضم إليه السيد عمر اسماعيل الدلسي والشيخ العاصمي أحد الموظفين الدينيين الرسميين والشيخ توفيق المدني الذي يصفه الشيخ مبارك الميلي على وجه الدعابة ـ بأنه صديق الجميع ـ».
يقول العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، خليفة الشيخ عبد الحميد في رئاسة جمعية العلماء،في شهادته، أنه: «منذ عودته إلى الجزائر كانت له لقاءات دورية مع ابن باديس لمتابعة أخبار النشاط الإصلاحي وتأثيره على الشعب، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين.» . تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لم يكن مجرد فكرة طارئة أو خاطرة عابرة، ولكنه مشروع نهضوي استراتيجي، احتاج سنوات طويلة من الجهد والسهر والتفكير والتحضير والإعداد والتنظيم ليرى النور.
رحم الله جيل الرواد المؤسسين، وجزاهم خيرا عن خدمة الوطن والدين.