في ظلال السنة.. المداومة على الاستغفار ديْدَنُ المتقين الأبرار

بقلم: مسعود فلوسي روى الإمام أبو داود في سننه عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضِي اللَّه عنْهُما قَال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «منْ لَزِم الاسْتِغْفَار؛ جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجًا، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ». الإنسان ضعيف، هذا ما وصفه به ربه عز وجل في قوله الكريم: (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: …

يوليو 28, 2025 - 19:39
 0
في ظلال السنة.. المداومة على الاستغفار ديْدَنُ المتقين الأبرار

بقلم: مسعود فلوسي

روى الإمام أبو داود في سننه عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضِي اللَّه عنْهُما قَال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «منْ لَزِم الاسْتِغْفَار؛ جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجًا، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ».

الإنسان ضعيف، هذا ما وصفه به ربه عز وجل في قوله الكريم: (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)؛ فالإنسان ضعيف ماديا ومعنويا، وهذا الضعف يجعله يقع في أخطاء كثيرة هي عند الله عز وجل ذنوب، هذه الأخطاء يدركها الإنسان ويكون على علم بها أحيانا، ولا يعلم بها ولا يشعر بوقوعه فيها أحيانا أخرى، وقد شرع الله عز وجل له الاستغفار حتى يمحو عنه هذه الذنوب ويخلصه من آثارها الدنيوية وعواقبها الأخروية. وهذا من رحمته سبحانه وتعالى بعباده، قال تعالى: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 39).

حقيقة الاستغفار:

الاستغفار دعاء، ولكنه دعاء خاص، فهو طلب المغفرة من الله عز وجل.. والمغفرة هي التجاوز عن الأخطاء والوقاية من آثارها والإعفاء من عقابها.. وهذا الاستغفار مطلوب من المؤمن دائما، سواء كان بعد ذنب معلوم ارتكبه، أو في إطار دعائه لربه عز وجل وهو في محراب العبادة أو وهو يتحرك في شعاب الحياة المختلفة. ولذلك فليس بالضرورة أن يكون الاستغفار بعد ذنب ظاهر، وإنما هو طلب المغفرة والعفو بصفة عامة. والمؤمن في الواقع كثير الذنوب والأخطاء، علم هذه الأخطاء أم لم يعلمها، ولذلك فالاستغفار مطلوب منه دائما. قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 199).
فالاستغفار عبادة قائمة بحد ذاتها، ومطلوبة لذاتها مثلها مثل غيرها من العبادات، ولذلك سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستغفر مباشرة بعد الخروج من الصلاة، فبمجرد أن يقول المصلي: السلام عليكم، عليه أن يقول: «أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» [رواه مسلم]، فأول كلام يقوله بعد التسليم من الصلاة هو أن يستغفر الله ثلاثا، لأنه لا يدري هل تقبل صلاته هذه أم لا.
وكذلك الحال في الصيام، ينبغي على المؤمن أن يحرص على الاستغفار عند الإفطار، وعند السحور، وفي كل وقت من ليل أو نهار، حتى يُثَبِّتَ الله أجره ويتقبل عمله ويغفر له ما يرتكبه من أخطاء أثناء صيامه.
الاستغفار، إذن، عبادة ينبغي لكل مؤمن أن يجتهد فيها دائما وفي كل وقت، كلما نسيها وجب عليه الرجوع إليها. وقد وصف الله عباده المتقين بأنهم: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 7-8].

الرسول إمام المستغفرين:

يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد: 19]، فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتكب ذنوبا بالمعنى الذي نفهمه نحن؟ كيف كان معصوما إذن؟ هو معصوم عن الذنوب، ومع ذلك يأمره الله عز وجل باستغفار ذنوبه (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ)، فأي ذنب يستغفر منه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هو هذه الذنوب التي لا يعرفها الإنسان ولا يعتبرها ذنوبا. فمثلا، الرسول صلى الله عليه وسلم، بسبب الاضطهاد الذي كان قومه يسلطونه عليه، ربما حدثته نفسه بترك الدعوة، فمجرد خطور هذا الخاطر ودورانه في النفس قد يكون عند الله ذنبا، مع أنه ليس ذنبا فعليا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك الدعوة ولم يخضع لضغوط المشركين ولم يتسامح في شيء من دينه، ومع ذلك هو بشر، فهذه الخواطر قد تأتيه كما تأتي غيره، فيستغفر الرسول صلى الله عليه وسلم منها.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المحفوظ من كل الذنوب ما ظهر منها وما بطن، أمره ربه عز وجل بأن يستغفر، فكان عليه الصلاة والسلام يستغفر كثيرا، ويقول: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» [رواه البخاري عن أبي هريرة].. فنحن أولى بالاستغفار وبأن نطلب من الله عز وجل في كل وقت أن يغفر لنا ويتجاوز عنا.

سيد الاستغفار:

أي صيغة يستعملها الإنسان في الاستغفار فهي مقبولة، لكن هناك صيغة عظيمة علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماها (سيد الاستغفار)، فقد روى البخاري وغيره عن شَدَّاد بن أَوْسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»، قال: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».
هذه الصيغة يجدر بكل مؤمن أن يحفظها ويجتهد في الاستغفار بها، لأنها جمعت بين العقيدة والعمل.
“اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ”، هذا تحقيق للتوحيد، فالإنسان يعترف لله عز وجل بأنه الرب الذي خلق كل شيء، ويتصرف في كل شيء، ويرزق العباد والمخلوقات كلها في كل حين، والذي لا يندُّ عن علمه شيء، وليس هناك من يتدخل مع الله في تصريف شؤون الخلق ولا في تسيير أمور الكون.
“خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ”؛ اعتراف من العبد لربه أنه هو الذي خلقه وصنعه، وأنه هو الذي أحياه بفضل وكرم منه سبحانه وتعالى، وأنه مخلوق ضعيف ليس له أي قوة ولا حول ولا شأن، فهذا اعتراف بموقف العبودية.
“وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ”؛ التزام مع الله عز وجل بالسير على صراطه المستقيم قدر المستطاع، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.. “أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ”؛ استعاذة بالله واحتماء به من شرور النفس، فالنفس تأمر بالسوء وتزين الحرام، ولا ينجو من شرور النفس إلا من حفظه الله.. “أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ”؛ أعترف بكل ما أنعمت به عليَّ، وأنا لا شيء لولا فضلك، وما كنت لأكون لولا أن خلقتني، وما كنت لأعيش لولا ما ترزقني به، وما كنت لأستطيع أن أتحرك أو أفعل شيئا لولا الصحة والقوة التي منحتنيها، فكل ما نحن فيه من نعم هو من الله، كما قال تعالى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (النحل: 18).
“وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي”؛ أي أن الذنب الذي أرتكبه أعترف بأنني وحدي المسؤول عنه. “فَاغْفِرْ لِي”؛ فأنا أعترف لك يا رب أني أخطأت، ولكني ألجأ إليك وأحتمي بك وأستسمحك مما أرتكبه من أخطاء. “فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ”؛ أي من فضل الله عز وجل أنه جعل الاستغفار والتوبة وعمل الصالحات سببا لمحو الذنوب: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود: 114)، فكلما فعل الإنسان حسنة يمحو الله بها سيئات كثيرة من سجل أعماله، فلله الحمد والشكر على فضله وإحسانه.

آثار الاستغفار في حياة المؤمن:

إذا لزم المؤمن الاستغفار وتعاهده وجعله ديدنه في حياته، كان لذلك آثاره العظيمة في حياته، قال تعالى: (وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُ) (هود: 3)، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث ثلاثة من هذه الآثار، هي بحد ذاتها كافية ومُغنية عن غيرها، وإذا تحققت في حياة المؤمن فقد سعد في الدنيا والآخرة، وهي:
أولها: الإخراج من المضايق: فإذا ما وقع المؤمن في ضائقة أو مشكلة وبادر إلى الاستغفار، يسعفه الله عز وجل بإخراجه من هذه المشكلة ويبعد عنه آثارها، وخير مثال على ذلك ما وقع لسيدنا يونس عليه السلام حين ابتلعه الحوت، فقد سارع إلى الاستغفار، فكانت النتيجة أن أمر الله عز وجل الحوت فلفظه إلى اليابسة، كما قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء: 87-88). وروى الترمذي عن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له».
ثانيها: تفريج الهموم: أي إزالتها وتخليص المؤمن منها، فإن الإنسان كثيرا ما تعتريه حالات تجعله يصاب بالقلق والاكتئاب وضيق الروح، دون سبب واضح، فتوسوس له نفسه ويوسوس له الشيطان بما فيه هلاكه أو ضلاله، فإذا ما سارع إلى الاستغفار وتمسك به، فإن الله عز وجل يذهب عنه همه ويزيل حزنه ويبعد قلقله واضطرابه، وهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم عن الأغر المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّه لَيُغَانُ علَى قَلْبِي، وإنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَومِ مِئَةَ مَرَّةٍ».
ثالثها: الرزق من حيث لا يحتسب: قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2-3). والتقوى تتضمن الاستغفار، لأن المتقين من شأنهم أن يكونوا مستغفرين، ولا تتصور التقوى بدون استغفار. فمن كان من المستغفرين المتقين فهو مرزوق من حيث لا يحتسب، أي أن الرزق يأتيه من طرق لم تكن في حسبانه، إكراما من الله عز وجل له على استغفاره، وكلما زاد استغفاره كلما زاد رزقه وبارك الله له فيه.