نظرة إلى الواقع: هل يمكن أن تنتصر أمة الإسلام؟
د.بن زموري محمد */ في زمن كثرت فيه التحديات، وتزاحمت الخطوب على أمة الإسلام، تطرح القلوب قبل العقول سؤالاً مُلحًّا: هل يمكن أن تنتصر أمة الإسلام؟ هل بقي في جسد هذه الأمة روح تقوى على النهوض من كبوتها؟ سؤال لا تجيب عليه العاطفة ولا الأحلام، بل تحكمه سنن ربانية ماضية وقوانين تاريخية صارمة. وقد آن …

د.بن زموري محمد */
في زمن كثرت فيه التحديات، وتزاحمت الخطوب على أمة الإسلام، تطرح القلوب قبل العقول سؤالاً مُلحًّا: هل يمكن أن تنتصر أمة الإسلام؟ هل بقي في جسد هذه الأمة روح تقوى على النهوض من كبوتها؟ سؤال لا تجيب عليه العاطفة ولا الأحلام، بل تحكمه سنن ربانية ماضية وقوانين تاريخية صارمة. وقد آن الأوان لننظر بعمق، لا بعين اليائس ولا بغرور الواثق، بل بنظرة صادقة تعرف الداء وتبحث عن الدواء، وتستضيء بنور الوحي، لا بسراب الأمنيات.
إن السر الحضاري الذي تحمله أمة الإسلام لم يُعرف له مثيل في تاريخ الإنسانية؛ إنه ذلك المزج الفريد بين العقيدة والعمل، بين الروح والعقل، بين الإيمان والسعي. لقد شاء الله أن يجعل هذه الأمة شهيدة على الناس، كما قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، فأكرمها بمهمة حمل رسالة التوحيد ونشر العدل والرحمة. وقد جسد المسلمون الأوائل هذا السر الحضاري حين ربطوا بين محراب العبادة وميدان الحياة، فأقاموا حضارة عمادها العلم والعدل والإحسان.
واليوم، مع شدة الجراح، ومع ما ران على القلوب من غفلة، يبقى السؤال معلقًا: هل تستطيع أمة الإسلام أن تنهض من جديد؟ وإن كانت الإجابة العاطفية تسارع إلى نعم، فإن الإجابة الواقعية تشترط شروطًا لا مناص منها. فكما أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا خير أمة بالأماني، بل بالعمل الصادق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان العميق، كذلك لا تنهض الأمة اليوم إلا بعودة صادقة إلى منابع القوة. قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، فجعل الخيرية مقرونة بالإيمان والعمل والدعوة.
إن القدرة على الارتقاء ما تزال كامنة في الأمة، لكنها تحتاج إلى نفوس مؤمنة قوية، وعقول نيّرة بالعلم، وهمم عالية لا ترضى بالدون. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير”. هذه القوة ليست قوة البطش، بل قوة الإيمان والفكر والعمل، التي تُحوّل العزائم الفردية إلى نهضة جماعية.
غير أن الطريق لا يخلو من عوائق وآفات نخرت جسد الأمة، وكان أولها الفرقة والتنازع الذي حذر منه الله تعالى بقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}. فكم مزقت العصبياتُ والولاءات الضيقة صفوفَ المسلمين، وكم أضعفهم التنازع عن تحقيق رسالتهم الكبرى. ويأتي الفساد ليستكمل دائرة الخطر، إذ تنتشر الرشوة، ويُهدر المال العام، ويُظلم الضعيف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم محذرًا: “إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”. ثم يأتي الجهل الذي هو أشد الآفات فتكًا، حيث تموت به العقول، وتُستعبد به الأمم، ولهذا كان أول أمر نزل به الوحي: “اقرأ”.
ولمعالجة هذه الأدواء، لا بد من عودة صادقة إلى العلم النافع، والعدل القويم، والوحدة تحت راية العقيدة، والعمل الدؤوب في كل ميدان. فالتربية والتعليم هما مفتاح النهوض، وإقامة العدل فريضة لا تستقيم الحياة بدونها، وتعزيز الوحدة على أساس الإيمان لا المصالح الضيقة هو السبيل لجمع الكلمة. قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”، فلا عزة لنا إلا بصدق التمسك بهذا الدين.
ويشهد التاريخ أن أممًا كثيرة انتفضت من تحت ركام الهزيمة حين آمنت بنفسها وتوكلت على ربها وسارت بخطى ثابتة نحو الإصلاح. ففي يوم الأحزاب بلغت القلوب الحناجر وتزلزل المؤمنون زلزالا شديدا، كما وصف الله تعالى: {وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا}، ومع ذلك ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته حتى جاء الفرج: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا}. وعندما استولت الحملات الصليبية على بيت المقدس وساد اليأس، انطلق صلاح الدين الأيوبي يبني الأمة بناءً من الداخل قبل أن يحشد الجيوش، حتى جاء يوم حطين الذي ارتفعت فيه راية الإسلام من جديد، وكان يقول: “والله إني لأحب أن أموت وأنا أطهر أرضًا فيها اسم الله من الكافرين”.
وها هو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حين تولى الخلافة والأمة غارقة في الظلم، لم يكتف بالخطابة، بل شرع بإصلاح جذري شامل في كل شؤون الدولة، حتى قيل إنه لم يُجدِ أحدٌ على الناس بعد عمر بن الخطاب مثلما أجدى عمر بن عبد العزيز، وما هي إلا سنتان حتى عم الرخاء أرجاء الدولة فلم يجدوا من يأخذ الصدقة.
وفي عالمنا المعاصر، تقدم لنا اليابان درسًا بليغًا، إذ نهضت من ركام الهزيمة النووية، لا عبر استيراد السلاح، بل عبر ترسيخ قيم التعليم والعمل والانضباط، حتى أصبحت في عقود قليلة من أكبر اقتصاديات العالم. وهذه سنن الله الماضية، لا تحابي أحدًا: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
إن التحفيز الصادق لا يكمن في دغدغة المشاعر بوعد قريب بالنصر بلا مقابل، بل في إيقاظ العقول والقلوب إلى أن النصر سنن لا تتخلف، وأنه لابد من الإيمان الصادق والعمل الدؤوب. ولهذا كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يكرر كثيرا أبيات -حوط بن رئاب الأسدي- : “لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا”، فطريق النهضة طريق شاق يحتاج إلى رجال آمنوا وعملوا وصبروا، لا إلى متفرجين يكتفون بالتحسر.
فلنبدأ بأنفسنا، ولنجعل من بيوتنا محاضن تربية على الإيمان والعلم والعمل. ولنغرس في قلوب أبنائنا معاني العزة بالإسلام، والعمل الجاد من أجل خير الأمة. ولنغرس في مجتمعاتنا ثقافة التعاون على البر والتقوى، لا التنازع والتباغض. ولنحمل هذه الرسالة كلٌّ في مجاله: في التعليم، في الاقتصاد، في الإعلام، في السياسة، في كل ميدان.
وإن كان الطريق طويلاً، فالعاقبة للمؤمنين، كما وعد ربنا: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين}. فلتشرق في قلوبنا شمس الأمل، ولنسر في طريق النهوض بخطى ثابتة، لا ننتظر معجزة من السماء، بل نوقن أن الله مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وما ضاع جهد أمة أحسنت الإيمان والعمل. فهيا إلى العمل، ولنكن لبنة في صرح العودة، صرح عودة الإسلام عزيزًا رحيمًا، عادلاً حاكمًا، ناشرًا للنور في ظلمات هذا العالم الحائر.