حوار نادر للشيخ الطيب العقبي في جريدة تونسية (1947)
أ.د. مولود عويمر/ لقد سبق لي وأن نشرت في الطبعة الثالثة لكتابي «الشيخ عبد الحميد بن باديس: مسار وأفكار» في عام 2023 حوارا طريفا لهذا العالم الجزائري مع جريدة «السردوك» التونسية. ومنذ ذلك الوقت كانت تراودني رغبة في الوصول إلى الحوارات الأخرى التي سجلتها النخبة الجزائرية مع الصحف العربية خارج الوطن حيث كانت بعيدة عن …

أ.د. مولود عويمر/
لقد سبق لي وأن نشرت في الطبعة الثالثة لكتابي «الشيخ عبد الحميد بن باديس: مسار وأفكار» في عام 2023 حوارا طريفا لهذا العالم الجزائري مع جريدة «السردوك» التونسية. ومنذ ذلك الوقت كانت تراودني رغبة في الوصول إلى الحوارات الأخرى التي سجلتها النخبة الجزائرية مع الصحف العربية خارج الوطن حيث كانت بعيدة عن الرقابة الاستعمارية وبالتالي كانت تعبر عن أفكارها ومواقفها بهامش حرية أكبر مما هو موجود في الجزائر المستعمرة.
ولم أكن متفائلا كثيرا في تحقيق مرادي لعدة أسباب أذكر بعضها للقارئ لاحقا، ولعل الحصول على هذا الحوار النادر للشيخ الطيب العقبي (1890-1960) يحفزني من جديد على مواصلة الصيد في بحر النوادر والتعريف بالذخائر ونشر الجواهر.
الحوار الصحفي فن جديد مريب?!
الحوار فن جديد في عالم الصحافة، فقلما نجده في الصحف الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين، فما بالك بوجوده في الصحف العربية التي تأخر ظهورها في العالم العربي، وتطوّرت ببطء في ظروف صعبة كالرقابة الاستعمارية والمتابعة القضائية والفاقة المالية وغيرها من المعوّقات.
كما أن الزعماء السياسيين أو الاصلاحيين كانوا يتوجسون دائما خيفة من اللقاءات الصحفية التي تستدرجهم للتصريح بالكلام غير المباح، أو يشعرون بالريبة تجاه الجريدة التي يمكن أن تتصرف في الحوار وتحمِّله ما لم يقله المحاوَر، وتصنع له جراء ذلك التصرف مشكلات هو في غنى عنها.
وهكذا يفضِّل العالم أو السياسي أن يعبِّر عن أفكاره وآرائه ومواقفه بقلمه حتى يتجنب الخطأ في نقل أقواله أو يتفادى الالتباس الذي يمكن أن يرد في فهم أفكاره. وحوار الشيخ العقبي مع الجريدة التونسية «منبر الشعب» في عام 1947 من الأمثلة القليلة التي تكسر تلك القاعدة في هذا المجال، وقد نشرته هنا حتى لا يبقى هذا النص الفريد في متاهات النسيان والضياع. وأنبّه القارئ إلى أنني حذفت جزءا كبيرا من التقديم الطويل للحوار نظرا لضيق المساحة المتاحة لهذه المساهمة.
على هامش الحوار:
الشيخان العقبي ومحمد البشير الإبراهيمي (1889-1965) شكَّلا تقريبا استثناءً بين زعماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذين لم يدرسوا في جامع الزيتونة بتونس؛ وإذا كان الشيخ الإبراهيمي قد زار تونس وأقام فيها فإن الشيخ العقبي -في حدود علمي- لم يزرها في حياته. غير أنه كان على علاقة متينة بالنخبة التونسية، ونشر لعدد من كُتابها مقالات في جريدته «الإصلاح» وفي صحف جمعية العلماء الجزائريين التي كان رئيسا لهيئة تحريرها. كما ساهم في جريدة «العصر الجديد» الصادرة في مدينة صفاقس، في بدايات عشرينيات القرن الماضي.
وهذا الحوار مع الجريدة التونسية «منبر الشعب» يكون أجري في لقاء بينها وبين الشيخ العقبي في الجزائر، وليس بالمراسلة لأن نوعية الأسئلة المطروحة عليه وطريقة إجابته عنها بإيجاز يدلان على أن الحوار كان شفهيا وليس كتابيا. وهذا الصحافي كان يمضي كتاباته بـ «الهاشمي»، ولم أعثر على ترجمة له.
افتتحت الجريدة الحوار بتقديم مطوّل تضمن تعريفا بالشيخ الطيب العقبي. وأغلب المعلومات التي نشرتها معروفة ومتداولة عن هذا العالم الجزائري، غير أن الجريدة ذكرت أيضا جوانب مجهولة، أذكر منها قولها بدراسته على الشيخ حمدان الونيسي (1856-1920) في قسنطينة، وهذا قول لم يرد في المصادر والمراجع التي تناولت حياة العقبي، وإنما تتلمذ عليه في المدينة المنوّرة بعد هجرته إلى الحجاز.
والأمر الثاني الجديد يتمثل في مساهمة العقبي في جريدة «الإقدام» التي كان يصدرها الأمير خالد الجزائري (1875-1936). ورغم تنقيبي في كل أعداد هذه الجريدة لم أعثر عن مقال للشيخ العقبي اللهم إلا إذا كان كتب باسم مستعار. كما ذكرت الجريدة أن الشيخ العقبي عاد إلى الجزائر في عام 1920 لاسترجاع أملاك عائلته التي استولى عليها بعض المقربين من السلطة الاستعمارية. واستغرقت مدة استرجاعها ثماني سنوات من الاجراءات القضائية. وكما قالت الجريدة «ولعل المقادير نصبت له هذه القضية الدنيوية بغرض لفت نظره إلى ما هو أسمى منها وأخلد».
قضايا كبرى في حوار مقتضب
هذا الحوار نشرته جريدة «منبر الشعب» التونسية في عددها الممتاز الصادر في 13 ديسمبر 1947. ولم أجد له أي أثر في جريدة «الإصلاح» لصاحبها الشيخ العقبي. وربما السبب في ذلك يعود إلى تعثر صدور هذه الجريدة في تلك الفترة التي مرض فيها الشيخ العقبي وأجرى خلالها عملية جراحية في الأذن اليسرى.
أما محتوى الحوار، فإنه تناول موضوعات عديدة ألخصها في النقاط التالية:
-العمل الوطني والتفكير السياسي
-الدعوة إلى الوحدة المغاربية
-مشروع الاتحاد الفرنسي ومصير الجزائر
-دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
-استعادة الأوقاف الإسلامية
-موقف من تحديث المجتمع الجزائري
-وسائل إصلاح المجتمع وتقدمه
ومن كل هذه النقاط التي تناولها الحوار أثار انتباهي بشكل خاص موضوع مهم جدير بالدراسة وهو دعوته الأحزاب الوطنية المغاربية إلى الوحدة والعمل المشترك في إطار مشروع جديد سماه «جامعة إسلامية لإفريقيا الشمالية»، وقد اقترح عقد مؤتمر في الجزائر نظرا لموقعها المركزي، غير أن مشروعه لم يجد صدى عند الزعماء السياسيين المغاربيين الذين استأثرت القضايا السياسية القطرية باهتمامهم.
كما كان لافتا للانتباه رأيه الرافض لمشروع الإتحاد الفرنسي بينما كان محل قبول عدد من السياسيين والزعماء المغارب ولقي استحسانا لدى الرأي العام الفرنسي الذي اعتبره كومنولثا فرنسيا يعطي لبعض المستعمرات سلطة محدودة مقابل استمرار التعاون الثقافي والاقتصادي واستغلال ثرواتها وخيراتها.
ومن خلال هذين الموقفين أثبت الشيخ العقبي ما كان يحاول التملص منه وهو السياسة. إنه لم ينخرط في أي حزب إلا أنه كان يعتبر دائما نفسه قائدا من قادة الجماهير الجزائرية، ويتكلم باسمها في مناسبات عديدة، ويبادر بتقديم آرائه وأفكاره للسلطة الفرنسية في قضايا الشأن العام الجزائري خاصة في فترة الورشات الإصلاحية التي بدأت في عام 1943 وانتهت بإصدار دستور الجزائر في عام 1947.
كما برزت شخصيته القيادية خلال المناقشات الكبرى لموضوع فصل الحكومة الفرنسية عن الدين الإسلامي، ومشروع تأسيس المجلس الأعلى الإسلامي أو موضوع الأوقاف والأحوال الشخصية…
ولم يعارض الشيخ العقبي تحديث المجتمع الجزائري في الجوانب النافعة كتحصيل العلوم وتعلم اللغات العالمية، ولكنه كان يتمسك بالقيم الإسلامية والقدوة الصالحة ويتجلى ذلك في رفضه اللباس العصري بالنسبة لعلماء الدين الذين يجب أن يحافظوا على وقارهم ويتخلقوا بالأخلاق الفاضلة كالإخلاص في العمل الدعوي والصبر على تبليغ أحكام الدين ورسالة العلم.
وقد ظهر في حواره مخلصا لرسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي ساهم كثيرا في نشاطاتها المختلفة ولم ينلها بسوء عندما خرج منها في عام 1938. وحرصت الجريدة على تكريس هذه الصورة من الوئام، والدليل على ذلك اقتباسها نص لرئيس جمعية العلماء الشيخ الإبراهيمي والذي أثنى فيه على شخصية الشيخ العقبي وأشاد بنشاطه الإصلاحي.
وقد استمر هذا الأخير في دعوته في نادي الترقي وفي الجمعية الخيرية وجريدة «الإصلاح» إلى أن لقي ربه في 21 ماي 1960، بعد عمر ناهز 71 سنة.
الشيخ العقبى ضيف جريدة «منبر الشعب»
«يشرف الشيخ العقبى اليوم على الجمعية الخيرية الإسلامية ومدرستها وكشافتها كما أنه ما فتئ منذ سنة 1931، يلقي محاضراته القيمة في الوعظ والإرشاد والتفسير بنادي الترقي، مقر عمله حيث انتقل من بسكرة إلى عاصمة الجزائر بعد تأسيس جمعية العلماء بها…
وبديهي أن كل ما قلناه عن الشيخ الطيب العقبي خاضع لطبيعته البشرية لسلطان النقد السليم وغير السليم ذلك أن من سنة الكون أن لا يسلم شخص من أصدقاء و خصوم، وقد سمعنا وما زلنا نسمع ما يحاول به البعض أن ينال من شرف هذا الشخص وإخلاصه كانفصاله من إدارة جمعية العلماء التي لم نسمع من أعضائها عند ذكره إلا عبارات الود ولإعجاب.
غير أننا وجدنا هذه التهم لا تخرج في جوهرها وقالبها عما رمي به الشيخان جمال الدين ومحمد عبده وما يرمى به القادة في المغارب الثلاثة. وليس هذا بعجيب في عصر أصبحنا نرمي فيه بالخيانة كل من خالفنا في الرأي سواء كان موضوع مناقشتنا مهما يخص المثل الأعلى والعقيدة أو تافها يكاد يتعلق بالذوق في المأكل والملبوس.
هذا، ولقد ألقينا على الشيخ العقبي بعض الأسئلة فتفضل بالإجابة عنها كما يلي:
– ما هو رأيكم في حزب الشعب وحزب البيان والحزب الشيوعي والجزائريين الموالين للحكومة؟
** لا رأي لي في تفضيل حزب على آخر، وأنا لم أنخرط قط في أي حزب منها. -هل تحبذون الرأي القائل بضم جميع الجهود المغربية تحت لواء حزب وطني واحد يعمل فيه على السواء التونسي والجزائري والمراكشي، أو على الأقل تحت حزبين يضم أحدهما أعضاء الدستور الجديد وما ماثله من
الأحزاب، ويشمل الآخر أعضاء الدستور القديم وما شابهه كما حاول البعض تحقيقه أخيرا؟
**أحبذ تكوين حزب واحد يدافع عن المغرب العربي الأكبر، وقد سبق لي أن دعوت جميع الإخوان لتكوين جامعة إسلامية لإفريقيا الشمالية، واقترحت عقد مؤتمر في الجزائر- بصفتها وسط المغرب، وتكفل المصلحون بتنظيمه والإنفاق على ما يتطلبه سفر وإقامة غير القادرين من ممثلي الأقطار الثلاثة. وقد نشرت ذلك في «الإصلاح» في حينه، وإني من الذين يعتقدون أن كثرة الأحزاب لا تزيد إلا ضررا في أمة غير مستقلة.
-ما هو موقفكم إزاء الاتحاد الفرنسي؟
**لا أقبله إذا كان المراد منه الاستمرار في استعباد الجزائر ومحاولة إدماجها في شعب يختلف عنها دينا ولغة وتقاليد وجغرافية.
-هل تعتقدون أن من واجب كل مغربي أن ينضم إلى أحد الأحزاب الوطنية لمؤازرتها في كفاحها السياسي أم الأولى به أن يترك السياسة لأصحابها، وأن يقتصر على تنمية معلوماته الثقافية أو الصناعية أو التجارية بدون أن يربط أدنى اتصال بأية هيئة سياسية؟
**التفكير السياسي واجب على كل مسلم وإنما المطلوب الاخلاص في ميدان من ميادين العمل، كل حسب مواهبه، والناس أن يكونوا مع المبدأ الذي اعتقدوا أنه الحق.
-هل تعتقدون أن جمعية العلماء قامت بواجبها في نشر اللغة العربية وتطهير الدين من قاذورات الخرافات والبدع وبث الأخلاق الفاضلة في الشعب؟
** قامت بما أمكنها أن تقوم به وهو كثير، إلا أن ما بقي لها كثير أيضا، ولا أظن أن من بين الهيئات الوطنية المنبثة في العالم الإسلامي من قامت بأكثر منها، نظرا للظروف العويصة التي اجتازتها ومازالت تجتازها هذه الجمعية في الجزائر.
-هل تظنون أن لأصحاب الطرق هيئات منظمات قوية؟
**نعم أظن ذلك، وحركتها تشمل المغارب الثلاثة، كما يدل على ذلك زيارة بعض الشيوخ لتلمسان وتونس.
-هل من الممكن أن يسترجع المسلمون أموال أوقافهم؟
**لا يمكن ذلك إلا بالاتحاد. ولقد كدنا نحقق ذلك في الجزائر في العشر سنين الأخيرة، إلا أن الانشقاق حال بيننا وبين تحقيقه.
-ما هو رأيكم في تعميم الزي الأوربي؟ هل تعتبرونه مفقدا للشخصية العربية أم أنكم تشاطرون رأي من يقول بأن عناوين الشخصية الحقيقية إنما هي في الدين واللغة والأخلاق والإنتاج العلمي؟
**من المسلم به أن الإيمان والعمل الصالح ليسا في العمامة و الطربوش ولا في الجلباب و البرنوس. والزي الأوربي يفيد اقتصاديا، إلا أن الأليق برجال الدين أن يحتفظوا بالزي القديم وباللحية، ونحن نرى من يماثلهم من الأوربيين أنفسهم لا يسايرون بقية الشعب في حلق الذقن ولبس السروال الضيق.
-ما هي أنجع الوسائل لتحسين حالة المغاربة الاجتماعية؟
**تعميم العلم، وتعلم اللغات الراقية، والتمسك بالتقاليد الإسلامية الصحيحة.
-هل في المقارنة بين اليوم وأول عهدكم بالإصلاح ما يبشر بالخير للبلاد؟
**ما حصلنا عليه إلى الآن لا بأس به بالنسبة إلى ما كنا عليه، إلا أنه تافه بالنسبة إلى ما بقي علينا انجازه».