رحيل آخر الكبار و أستاذ الأجيال.. بل هوت رفوف وازنة من مكتبتنا !!
أ. محمد مصطفى حابس، جنيف/سويسرا/ كتبنا الأسبوع الماضي كلمات عاجلة طائرة في ثلاث مقالات متوالية، عن رجال القرطاس والقلم عموما بما فيهم خاصة «الأعوج» و«الأعرج» كما يصفهم بعض كتاب الجزائر، حيث عرجنا على قمامات رجال و قممات (بضم القاف)، وللقارئ أن يفرق بين «لاز» الطاهر وطار -رحمه الله – وبوجدرة وحلزونه العنيد وبن نبي وظاهرته …

أ. محمد مصطفى حابس، جنيف/سويسرا/
كتبنا الأسبوع الماضي كلمات عاجلة طائرة في ثلاث مقالات متوالية، عن رجال القرطاس والقلم عموما بما فيهم خاصة «الأعوج» و«الأعرج» كما يصفهم بعض كتاب الجزائر، حيث عرجنا على قمامات رجال و قممات (بضم القاف)، وللقارئ أن يفرق بين «لاز» الطاهر وطار -رحمه الله – وبوجدرة وحلزونه العنيد وبن نبي وظاهرته القرآنية -رحمه الله – الخ.. وقد ذكرنا حينها – لمن يذكر – منذ سنوات، مقال لنا تطرقنا فيه لظاهرة بعض الدعاة عندنا الذين يغرفون من مداد بوجدرة وأصحابه، تحت عنوان: «مِحن في مسيرة الدعوة والدعاة (عمرو خالد نموذجا)، إذ فاجأنا هذا الاسبوع أحدهم من الضفة الأخرى لقارتنا بقوله، ونحن نكفكف دموعنا في وفاة الشيخ الدكتور محمد ناصر بربوشة، أن المرحوم «إباضي و من الخوارج، يجب التريث في التعامل مع سيرته و طريقة تعزيته»!! ..
دعاة زماننا أنواع و طباع وأشكال وأحجام، والأفكار أمزجة وأمتعة..
ولا غرابة.. صحيح دعاة زماننا في الميدان أنواع وطباع وأشكال وأحجام، والأفكار أمزجة وأمتعة، وكما قال بعضهم، بل إنهم بمثابة الأقلام، كل يكتب في صحيفته وبمداد محبرته، فهناك قلمٌ يحرِّر.. وآخر يِقرّر.. وآخر يغرّر.. وآخر يبرّر، وآخر يحاول جاِهداً أن يمرّر وآخر .. وهناك قلمٌ أمير وقلمٌ أجير وقلمٌ أسير.. كما يوجد قلم حرٌ حذر وآخر غِرٌ قذر.
وهناك فِكر «متَسرّب» وآخَر «متَغرّب.. وآخر «مجِرّب» وآخر «مقَرِّب.. وآخرَ «مهرِّب» وآخر «معرِّب» وآخر «مخرِّب..، وهناك فكر قوي وآخر غيَر سوي، هكذا هِي سنَة الحياة، للحق أتباع وللجيف ضباع، فقِلةٌ فيِ انصياع والأكثرَون فيِ ضياع.. تلك هي حياتنا على حد تعبير أحد الاخوة الدعاة.
الأفكار تتغير بفعل الزمان والمكان، وحتى المبادئ تتغير وإذا أردنا تلطيف العبارة نقول أنها ترمم، لكن لما يقفز بعض الدعاة على ما كان يقولونه لبني قومهم بالجملة والمفرق، ويتعدوا الحواجز الكثيرة من غير أن ينتبه بعضهم للزاد المعرفي الذي يمتلكه وحلبة الصراع التي تنتظره، متناسيا أنه عندما يختار بإرادته أن يكون شخصية عامة؛ سيكون عليه التخلي عن جزء كبير من حريته الشخصية، سواء في أفعاله أمام العامة أو في التعبير عن رأيه في بعض القضايا، خاصة إن كان شخصية تمثل ديانة سماوية فما بالكم برجل الرسالة الخاتمة؟
رحيل قلم ولسان مربي الأجيال..
تناقلت وسائل التواصل الاحتماعيل، خبر وفاة الشيخ محمد ناصر(بربوشة) الأستاذ الجامعي والكاتب والمفكر والمؤرخ والشاعر والمحقق والمبدع والرجل المصلح، الذي قدم الكثير أكاديميا وفكريا وابداعيا.
وما أن نشرنا التعزية، حتى كتب لنا أحدهم على الخاص، الجملة التالية: « «إباضي و من الخوارج، يجب التريث في التعامل مع سيرته»!! فأحلته على مقال قديم لنا، تحت عنوان: «أين دعاتنا من شعار» تعالوا نحب بعضا.. تعالوا نحضن بعضا»
ولا بأس أن نغتنم هذه الفرصة لنعرف هذا «المفتي الصغير» هو و من على شاكلته في مشرقنا العربي الذين «يحسنون توزيع فتاوى التحريم» على الناس كما يقول الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله: «من الآفات التي اعترضتني في طريق الدعوة، أناس عندهم رغبة مجنونة في الحكم بالتحريم على أي شيء!!
فلو استطاعوا تحريم الهواء لأصدروا بذلك الفتوى، ولو مـاتوا مع الناس مختـنقين!!
وهم يتصورون الإسلام رسالة تسكن من العالم الرحب حارة ضيقة لها تقاليدها و لها مراسمها، فما يصلها بالعالم ممنوع مهما كانت طبيعته، والمهم بقاء الحارة منطوية على أصحابها وحسب وأصحاب هذا الفكر قد يصلحون بوابين على خرابة، أما أن يكونوا دعاة لدين عــالمي، يفتح صدره للإعصار والأمصار، ويتجاوب مع فطرة الله في الأنفس، و يتفاهم مع الرجال والنساء في الشرق والغرب، فهذا مستحيل!! مضيفا بقوله، رحمه الله: «وأصارحكم بأني كنت ألتمس العذر لبعض الغلاة، وأقول: مخلصون ينقصهم الفقه في دينهم، وعلّ إخلاصهم يغفر جهلهم؛ بيد أني بدأت أشعر بالقلق من أن يكون وراءهم من يتعمد تعسير الإسلام لمآرب أجنــبية!!
إن الإسلام يلقى محناً خطــيرةً في هذا العصر، و قد استيقنا من أن أصابع غريبة تحيك له الدسـائس، وتتعمد نشر فتاوى متعسفة للمتقعرين والمنحرفين، حتى تصرف أتباعه عنه وتصد الداخلين فيه؛ و هنا الخـطر!! !!.(الغزالي: «جرعات جديدة من الحق المر»: الجزء الخامس ص41،40،39)
وهوت إحدى كبرى أهرامات النقد العربي المعاصر
وأنا أحاول أن أكتب تعريفا بسيرة هذا الرجل وإنجازات مشوار هذا العالم العارف، لمن يرغب، أن يستفيد مثلي، فالمرحوم لا أعرفه شخصيا، وحتى لما سمعنا خبررحيله، اختلطت علينا الأسماء لأن الدكتور محمد ناصر الذي أعرفه، ليس له هذا الاختصاص ولا حتى صورة الوجه هي تلك!، علما أنهما من نفس الجهة أي بوابة الصحراء، أرض الميزاب (غرداية).
وقد كاتبت بشأنه البروفيسور يوسف وغليسي، جزاه الله خيرا، وقد أفاد وأجاد، ينعى الرجل وأستاذ الأجيال، تحت عنوان: رحيل آخر الكبار: محمد ناصر (1938 -2025)! قائلا: كنا نذكر اسمه حين نذكر أسماء أهرامات النقد الجزائري المعاصر التي سقطت تباعا: محمد مصايف، عبد الله الركيبي، صالح خرفي، أبوالعيد دودو، أبو القاسم سعد الله، عبد الملك مرتاض، …
واليوم ينضم اسمه الكريم (عليه السلام والرحمة!) إلى قائمة الراحلين الكبار، وقد ترك من الآثار ما يبقيه حيا في ذاكرتنا الجمعية سنوات طويلة أخرى؛ يكفي أن أطروحته الضخمة (767 ص!): الشعر الجزائري الحديث اتجاهاته وخصائصه الفنية (1925 – 1975) لا تزال – في تقديري الشخصي – أضخم وأعمق وأهم ما كُتب عن الشعر الجزائري (في تاريخه الطويل) على الإطلاق! ويكفي أنه أول من كتب كتابا عن شاعر الثورة مفدي زكريا، وأول من بعث آثار الفتى الميزابي العظيم رمضان حمود (1906-1929)!..)!..
وأكبر من كتب -وفاء فكري حميم – عن شيوخه الإباضيين العظام (أبواليقظان، بيوض، اطفيش، دبوز،..)
وهو الرائد الكبير الذي تخصص تماما في الكتابة عن الصحافة الوطنية (الأدبية خصوصا) التي خصها بأطروحة دكتوراه (الحلقة الثالثة)؛ وقد أشرف عليها المجمعي الدمشقي الكبير شكري فيصل ، عام1972.
وهو الشاعر الذي ترك إرثا شعريا للصغار خصوصا، وحين أذكر الصغار أذكر أنني ذهلت وأنا أتأمل (في صفحة الصديق د. مسعود فلوسي) قائمة كتبه المنشورة، وقد تجاوزت مئة وثلاثين كتابا؛ نصفها في أدب الأطفال، والنصف الباقي شراكة بين الدراسات الأدبية والدراسات الفكرية الإباضية (خصوصا)…
محمد ناصر بربوشة هو نابغة معهد الحياة بالقرارة (عروس الجنوب الجزائري الفكرية)، ثم خريج جامعة القاهرة لاحقا (1966)؛ حيث تتلمذ لأساطين النقد العربي الكبار (شوقي ضيف، يوسف خليف، سهير القلماوي،…)، قبل أن يؤوب إلى بلاده معلما ثم أستاذا بجامعة الجزائر (1971 – 1991)، التي غادرها إلى معهد العلوم الشرعية بسلطنة عمان تسع سنوات كاملة، ثمّ عاد إلى الجزائر وقد أثقله القصور الكلوي أكثر من عشرين سنة كاملة! من يقرأ أطروحته العجيبة عن الشعر الجزائري بفصولها الممتازة، وملاحقها وفهارسها الدقيقة المضنية التي لا تقل أهمية عن فصولها، وقد أنفق في إنجازها أكثر من عشرة أعوام قضاها في الانتقال علميا وإداريا بين الجزائر والرباط والقاهرة وباريس لأجل حياة تلك الأطروحة، يعرف ما معنى أن تصبح دكتورا في ذلك الزمان!
واليوم ينجز فتى غر رسالة سقيمة، أكثرها «مسلوخ» من أقوال مطروحة في مواقع التواصل الاجتماعي، عن ظاهرة بسيطة في ديوان واحد لشاعر واحد (كان أمثال محمد ناصر قادرين على إنجازها في أسبوع واحد!)، وحين يناقشها يتجبر ويتكبر ويرفع عصا داله الجديدة في وجه شيوخه.
تغمدك الله برحمته الواسعة أيها الراحل الكبير..
المجد والخلود لآثارك العظيمة، والصبر الجميل لأهلك الكرام. داعين الله – من جهتنا – أن يتقبله قبولاً حسنًا، وينزله منزلا حسنًا، في فردوسه الأعلى، ويحشره مع النبيين والصديقين والشهداء، ويتقبل سائر عمله وأن يجزيه خير الجزاء.
و«إنا لله وإنا إليه راجعون».