ما هي الحكمة في إنزال القرآن مفرقا؟
الشيخ محمد مكركب أبران mohamed09aberan@gmail.com/ الفتوى رقم:779 الســــــــــــؤال قالت السائلة: كن نحن جماعة من الأخوات، نتدبر القرآن الكريم مع المرشدة، في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ (سورة الإنسان:23) فسألت أخت: ما الفرق بين الإنزال، والتنزيل؟ فأجابت المرشدة: أن التنزيل من معانيه الإنزال بالتدرج على فترات، ومراحل. قالت السائلة: وسؤالي: لماذا لم ينزل …

الشيخ محمد مكركب أبران
mohamed09aberan@gmail.com/
الفتوى رقم:779
الســــــــــــؤال
قالت السائلة: كن نحن جماعة من الأخوات، نتدبر القرآن الكريم مع المرشدة، في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ (سورة الإنسان:23) فسألت أخت: ما الفرق بين الإنزال، والتنزيل؟ فأجابت المرشدة: أن التنزيل من معانيه الإنزال بالتدرج على فترات، ومراحل. قالت السائلة: وسؤالي: لماذا لم ينزل الله القرآن جملة واحدة، كسائر الكتب؟ وما الحكمة في التنزيل على مراحل؟
الجـــــــــــواب
بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.والصلاة والسلام على رسول الله.
أولا: أن القرآن الكريم كتاب عالمي، ودائم، يقتضي تطبيقات كثيرة ومتنوعة تشمل عوالم الواقع الخمسة كلها، ليكون صالحا لكل زمان ومكان كما أراد الله رب العالمين: فكانت الكتب السابقة التي أنزلها الله على رسله تخص أقواما معينين، في فترات معينة، كل كتاب لقوم مخصوصين، في أزمنة وظروف متقاربة ومحدودة الأحداث نسبيا. فكان يكفيها البيان والشرح العام مرة واحدة دفعة واحدة. رغم أن من الكتب السابقة كالتوراة نزلت متفرقة، على حد قول بعض العلماء المفسرين، ورد في تفسير المراغي:{قالوا: هلا أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة كما أنزلت الكتب السالفة على الأنبياء كذلك، وهذا زعم باطل، ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت متفرقة فقد أنزلت التوراة منجمة في ثماني عشرة سنة كما تدل على ذلك نصوص التوراة} (ت. المراغي:19/12) وليس هذا موضوعنا. قلت: وأما القرآن الكريم فيخص أجيالا متعاقبة، في أزمنة مختلفة، ومتنوعة الظروف والأحوال لقرون وقرون، بل إلى يوم القيامة، فلذلك ورد في القرآن القصص، والأمثال، والأخبار المطلقة، ولم يأت في القرآن في كثير من القصص تبيان تاريخ الأحداث، وأسماء الأشخاص، والبلدان، ليكون الخبر، والقصة، والمثل، والحكم، عاما لكل من يقرأ القرآن. قال الله تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ (الإسراء:105، 106) نزله الله شيئًا فشيئًا، مفرقًا في زمن ثلاث وعشرين سنة. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم. قالت السائلة: {لماذا لم ينزل الله القرآن جملة واحدة، كسائر الكتب؟} وأقول للأخت السائلة، والجواب: لقد طُرِحَ هذا السؤال من قبلُ وقتَ نزولِ القرآن، وأجاب الله سبحانه عن السؤال، بتمام البيان والوضوح، في سورة الفرقان، فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا.﴾ (الفرقا:32،33) فكان القرآن ينزل مفرقا، والرسول يبين للناس ما نزل إليهم، ويعطي الأجوبة والحلول لكل القضايا والمسائل التي تطرح، حيث جعل الله سبحانه، إنزالَ كتابه جاريا على أحوال نبيه وظروف دعوته، ومصالحه، ومصالح الأمة إلى يوم القيامة، فالقرآن دستور جامع دائم لكل أصناف البشر.. قال الرازي: وَبَيَانُ هَذَا الْجَوَابِ (في الآية) مِنْ وُجُوهٍ. منها: {أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الْخَلْقِ لَنَزَلَتِ الشَّرَائِعُ بِأَسْرِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى الْخَلْقِ فَكَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، أَمَّا لَمَّا نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا لَا جَرَمَ نَزَلَتِ التَّكَالِيفُ قَلِيلًا قَلِيلًا فَكَانَ تَحَمُّلُهَا أَسْهَلَ} (التفسير الكبير:24/457).
ثانيا: وفي قوله: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ ورد في البحر المحيط في التفسير: قال الزَّمَخْشَرِيُّ: {وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ نُقَوِّيَ بِتَفْرِيقِهِ فُؤَادَكَ حَتَّى تَعِيَهُ وَتَحْفَظَهُ لِأَنَّ الْمُتَلَقِّنَ إِنَّمَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ شيئا بعد شيء، وجز عَقِيبَ جُزْءٍ، وَلَوْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَكَانَ يَعْيَا فِي حِفْظِهِ وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَارَقَتْ حَالُهُ حَالَ دَاوُدَ وَمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، حَيْثُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، وَهُمْ كَانُوا قَارِئِينَ كَاتِبِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ التَّلَقُّنِ وَالتَّحَفُّظِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ مُنَجَّمًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ، وَجَوَابِ السَّائِلِينَ.} (البحر المحيط:8/104)
ثالثا: وفي كتاب: (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم). من تفسير أبي السعود، قال: {القرآنُ الكريم بينةُ صحته آيةُ كونه من عند الله تعالى نظمُه المعجزُ الباقي على مرِّ الدّهورِ، المتحقِّقُ في كلُّ جزءٍ من أجزائه المقدرة بمقدار أقصرِ السُّورِ، حسبما وقع به التَّحدِّي، ولا ريب في أن ما يدور عليه فلَكُ الإعجاز هو المطابقةُ لما تقتضيه الأحوالُ، ومن ضرورة تغيّرِها وتجدُّدها تغيُّر ما يُطابقها حتماً، على أنَّ فيه فوائد جمة أشير إلى بعض منها بقوله تعالى {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} فإنَّه استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالهم الباطل… وكذلك عامة ما وردَ في القرآنِ المجيدِ من الأخبار وغيرِها متعلِّقةٌ بأمورٍ حادثةٍ من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجدُّدِها تجددُ ما يتعلَّقُ بها} والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.