“نهاية زمن الكاميرات”: تبون يطالب الوزراء بالإنجاز لا الاستعراض !

في خطاب واضح ومباشر، وجّه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون رسالة صارمة لأعضاء الحكومة، داعيًا إياهم إلى الكفّ عن ما وصفه بـ”الفلكلور الإعلامي”، في إشارة إلى مظاهر التلميع والاستعراض التي صاحبت بعض أنشطة الوزراء والمسؤولين خلال الأشهر الأخيرة. هذا التوجيه لم يكن مجرد ملاحظة عابرة، بل جاء في سياق دقيق يفرض فيه الواقع الاجتماعي والاقتصادي …

مايو 19, 2025 - 14:31
 0
“نهاية زمن الكاميرات”: تبون يطالب الوزراء بالإنجاز لا الاستعراض  !

في خطاب واضح ومباشر، وجّه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون رسالة صارمة لأعضاء الحكومة، داعيًا إياهم إلى الكفّ عن ما وصفه بـ”الفلكلور الإعلامي”، في إشارة إلى مظاهر التلميع والاستعراض التي صاحبت بعض أنشطة الوزراء والمسؤولين خلال الأشهر الأخيرة.

هذا التوجيه لم يكن مجرد ملاحظة عابرة، بل جاء في سياق دقيق يفرض فيه الواقع الاجتماعي والاقتصادي على السلطات أن تتخلى عن المظاهر الشكلية، وتنتقل إلى مرحلة الجدية والفعالية في الأداء.

وقد أثارت هذه التصريحات اهتمام الرأي العام، وأطلقت موجة نقاش واسع في الأوساط السياسية والإعلامية حول مدلول هذا المصطلح، وخلفياته، ومراميه، في سياق الجهود الرئاسية لتحسين الأداء الحكومي، واستعادة ثقة المواطن.

لفظ “الفلكلور الإعلامي” الذي استعمله رئيس الجمهورية يحمل في طياته دلالة رمزية، ويعكس بشكل ضمني موقف الدولة من بعض الأساليب التي يُنظر إليها على أنها بعيدة كل البعد عن المسؤولية الحقيقية.

ويقصد بالفلكلور هنا تلك الممارسات التي يتم فيها التركيز على الشكل على حساب الجوهر، من خلال زيارات ميدانية بروتوكولية يغلب عليها الطابع الاحتفالي، وحملات إعلامية ضخمة حول مشاريع لم ترَ النور بعد، أو تضخيم لإنجازات بسيطة يتم تصويرها وكأنها فتوحات تنموية.

الرئيس تبون، ومنذ بداية عهدته، عبّر أكثر من مرة عن امتعاضه من بعض الممارسات التي تُسيء لهيبة الدولة أكثر مما تخدم صورتها. وجاءت هذه التعليمات الأخيرة كإجراء تصحيحي في وقت تتعاظم فيه مطالب المواطنين بخصوص تحسين الخدمات العمومية، ومواجهة مشكلات التشغيل والسكن والتنمية المحلية.

في هذا السياق، لم يعد مقبولًا – من وجهة نظر الرئاسة – أن ينشغل الوزراء بظهورهم الإعلامي أكثر من انشغالهم بنتائج عملهم على الأرض.

وقد أثارت هذه التوجيهات نقاشًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية. فعدد من المتابعين رأوا فيها إشارة إلى أن الرئاسة بدأت في إعادة ترتيب أولوياتها، خصوصًا في ظل تراجع ثقة المواطن في بعض المؤسسات بسبب انعدام الشفافية وتكرار الوعود غير المنجزة. المواطن الجزائري، الذي أصبح أكثر وعيًا وقدرة على التمييز بين الكلام والفعل، لم يعد يقتنع بسهولة بصور الوزراء وهم يبتسمون أمام الكاميرات، ما لم يلمس أثر ذلك في واقعه اليومي.

وهذا التوجيه لا يمكن فصله عن السياق العام الذي تمر به البلاد، حيث تعيش الجزائر مرحلة مفصلية تتطلب انتقالاً فعليًا من الخطابات إلى السياسات الملموسة. و ما قصده الرئيس هو أن المسؤول يجب أن يكون رجل ميدان لا رجل كاميرا، فالعمل الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج إعلامي، بل إلى صمت فعّال تواكبه نتائج واقعية .

وايضا الإعلام الجزائري لعب بقصد أو دون قصد دورًا في ترسيخ هذا النمط من الأداء السياسي القائم على التلميع. بعض وسائل الإعلام باتت تتسابق على تغطية نشاطات الوزراء، ولو كانت مجرد زيارات بروتوكولية أو تفقد صوري لمشاريع متأخرة، دون التعمق في المضمون أو طرح أسئلة حقيقية حول الجدوى والنتائج”.

ومع توجيهات الرئيس، نحن كصحفيين مطالبون أيضًا بإعادة النظر في أولوياتنا المهنية، والخروج من دائرة الترويج إلى فضاء الرقابة والتحقيق والمساءلة.

في الميدان، يلاحظ المواطنون في بعض الولايات مظاهر هذا “الفلكلور الإعلامي” التي تحدث عنها الرئيس. وزير يصل إلى بلدية نائية فتُعبّد الطرقات في ليلة واحدة، تُنظف الأرصفة، تُعلّق اللافتات المرحبة، وتُحضّر الكاميرات قبل أن يصل المسؤول في موكب رسمي، وبعد انصرافه تعود الأمور كما كانت، إن لم تكن أسوأ. هذه المشاهد – رغم تكرارها – لم تعد تمرّ دون سخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتداول الجزائريون صورًا وتعليقات تُجسد المفارقة بين ما يُعرض إعلاميًا وبين واقع الحياة اليومية.

من جهة أخرى، فإن التوجيه الرئاسي يطرح تحديات كبيرة على مستوى الإدارة العمومية. فهل تستطيع الوزارات تغيير ثقافة راسخة تقوم على الظهور بدل الإنجاز؟ وهل تملك الحكومة آليات حقيقية لتقييم أداء مسؤوليها على أسس موضوعية بعيدًا عن الصورة الإعلامية؟ الإجابة على هذه الأسئلة تقتضي توفر إرادة سياسية حقيقية، وإجراءات عملية منها: إعداد تقارير ميدانية دورية عن مستوى تنفيذ المشاريع، وتفعيل دور المفتشيات العامة، وربط المناصب التنفيذية بنتائج ملموسة.

وفي السياق نفسه، يرى البعض أن نجاح هذا التوجيه مرهون بتغيير العلاقة بين المسؤولين والإعلام. فالإعلام يجب أن يتحرر من عقلية التبعية للمسؤول، ويتحول إلى فاعل مستقل يقوم بدوره في الرقابة، لا مجرد ناقل للبلاغات الرسمية والتصريحات الفضفاضة. فهل نحن مستعدون لفتح هذا الورش الإعلامي الكبير بالتوازي مع إصلاح الإدارة؟

ويبدو أن بعض الوزارات قد بدأت بالفعل في مراجعة أساليبها الإعلامية، حيث تم تقليص عدد التغطيات البروتوكولية، والاكتفاء ببيانات مختصرة حول النتائج بدل استعراض العمليات. لكن لا يزال الطريق طويلاً لتغيير الذهنية بشكل شامل، لا سيما في غياب تقييم موضوعي ومستقل لأداء كل قطاع.

خلاصة القول، إن توجيه الرئيس تبون للوزراء بالابتعاد عن الفلكلور الإعلامي لا يُعدّ مجرد تعليمات ظرفية، بل يمثل منعطفًا مهمًا نحو تجسيد الحكم الرشيد، وتعزيز ثقة المواطن في مؤسسات الدولة. هو دعوة إلى الواقعية والإنجاز، إلى النزول إلى الميدان بدل المنصات، وإلى تحقيق التنمية لا الاكتفاء بتصويرها.

فهل ستستجيب الحكومة لهذا النداء؟ وهل سيسترجع المواطن ثقته حين يرى النتائج بدل الصور؟
الزمن وحده كفيل بالإجابة، لكنه زمن لا يحتمل المزيد من التردد أو التجميل.

المحلل السياسي عدة فلاحي: ” الرئيس محق في تعليماته وهناك خلل في تصرفات بعض المسؤولين “

في تعليقه على توجيه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون للوزراء بضرورة الابتعاد عن “الفلكلور الإعلامي”، اعتبر المحلل السياسي عدة فلاحي أن هذا التصريح لم يأت من فراغ، بل يعكس استشعارًا رئاسيًا متزايدًا لحالة الخلل التي باتت تميز الأداء الإعلامي، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون.

وقال فلاحي في حديث لجريدة “الوسط”: “يبدو أن رئيس الجمهورية قد تلقى تقارير أو بلاغات عن واقع الإعلام الوطني ومستواه الهزيل، والذي فشل في لعب دوره الأساسي المتمثل في تشكيل رأي عام ناضج ومسؤول، وبدل أن يكون رافعة للوعي الجمعي والتنوير العقلاني، انساق وراء برامج سطحية لا تمت بصلة إلى طبيعة المرحلة المعقدة التي تمر بها الجزائر والعالم”.

ويضيف المتحدث أنه “قبل نحو عقد من الزمن، أوصت وزارة الإعلام وكذا سلطة ضبط السمعي البصري بضرورة إعادة الاعتبار للفكر والفلسفة والنقاش العقلاني في القنوات الوطنية، غير أن ما حدث هو العكس تمامًا، حيث فُتحت الأبواب على مصراعيها لحصص متدنية المحتوى تستعرض الخلافات العائلية، وأخرى تروّج للرقية والشعوذة في البث المباشر .

وتابع فلاحي بالقول: “لقد حذرنا مرارًا من خطورة هذا الانزلاق، غير أن الجهات المعنية ظلت صامتة، بل وسمحت بتوسع هذا الفلكلور الإعلامي حتى طال حقولًا أكثر حساسية، كالفتوى الدينية، والتي تحولت في بعض الأحيان إلى منبر للتهريج والعبث، بعد أن تصدر لها من لا أهلية لهم ولا شرعية”.

وفي سياق متصل، أشار المحلل السياسي إلى ما وصفه بـ”الضجة الإعلامية المفتعلة” حول ظاهرة سحر المقابر والشعوذة، معتبرًا أنها أعطت صورة مشوّهة ومخزية عن المجتمع الجزائري. واعتبر أن الإعلام الجزائري “استثمر في هذه الظواهر كوسيلة لملء فراغاته البرمجية بدل أن يبرمج قضايا أكثر جدية وعمقًا، أو أن يعالج الظواهر السلبية بطريقة احترافية قائمة على التحليل والمعالجة لا على الإثارة”.

أما بخصوص الأداء الاتصالي لبعض المسؤولين، فقال فلاحي: “هناك أيضا خلل واضح على مستوى التصريحات غير المنضبطة لبعض الولاة والوزراء، الذين لا يراعون حساسية مواقعهم ولا طبيعة اللحظة الإعلامية التي نعيشها، حيث تنتقل أقوالهم وسلوكياتهم بسرعة البرق على وسائل التواصل الاجتماعي، لتتحول إلى مادة للسخرية والتهكم في المجالس العامة وأحاديث الناس”.

الإعلامي إبراهيم قارعلي: “الفلكلور الإعلامي نتاج طبيعي لفلكلور سياسي”

في تعليقه على توجيه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بضرورة إبعاد العمل الحكومي عن “الفلكلور الإعلامي”، يرى الإعلامي والكاتب الصحفي “إبراهيم قارعلي” أن هذا التوصيف الدقيق من الرئيس لا يتعلق فقط بالإعلام كأداة نقل، بل يمتد ليشمل عمق الأداء السياسي والإداري الذي صار حافلاً بالمظاهر والتهريج، لا بالنتائج والمضامين.

وقال “قارعلي” في حديث لجريدة “الوسط”: “الفلكلور الإعلامي في جوهره هو تهريجٌ يرافق الكثير من أنشطة المسؤولين، خصوصًا أثناء خرجاتهم الميدانية، حيث تحوّلت تلك الخرجات إلى ما يشبه الكرنفالات التي تفتقر للجدية، وتتضخم عبر وسائط التواصل الاجتماعي التي لا تهتم بالمضمون بقدر ما تلاحق التفاعل وعدد المعجبين والمشاركات”.

واعتبر المتحدث أن بعض الولاة باتوا يتصرفون بطريقة غير لائقة تجاه رؤساء البلديات، قائلاً: “من غير المقبول أن يتطاول والي الجمهورية على رئيس بلدية، لأنه يُمثل الإرادة الشعبية في منطقته، والإهانة في العلن لا تليق بمسؤول في الدولة، مهما كانت خلفياته أو نواياه. لقد تحوّلت الكثير من خرجات الولاة إلى مظاهر استعراضية مليئة بالصراخ والإهانة، وتحوّلت الكاميرا من وسيلة توثيق إلى أداة استعراض”.

وفي معرض حديثه عن مسؤولية الإعلام، أشار “قارعلي” إلى أن الوسائل الإعلامية الثقيلة – وفي مقدمتها القنوات التلفزيونية – قد ساهمت بشكل مباشر في تعميق هذا الفلكلور، قائلاً: “للأسف، لم تعد هذه القنوات ثقيلة بالمعنى الحقيقي، بل خفيفة مضمونيًا، بعد أن أصبحت تعتمد بشكل كبير على ما يُنشر في وسائط التواصل الاجتماعي، دون تحقيق أو تدقيق أو إنتاج مستقل. لقد تحولت هذه القنوات إلى مجرد ناقل لما يُنشر في فيسبوك أو تيك توك، وهو ما أضر بمهنة الصحافة التي باتت للأسف ملاذًا لمن لا مهنة له”.

وأضاف الإعلامي المعروف بمتابعته الدقيقة للشأن الإعلامي أن “الجزء الأكبر من المشكلة لا يتعلق فقط بوسائل الإعلام، بل بوسائط التواصل الاجتماعي التي لا تخضع لأي ضوابط تحريرية أو مهنية. غير أن الطامة الكبرى تكمن في المسؤولين أنفسهم، الذين صاروا يتماهون مع هذه الوسائط، بل ويُدلّلونها بتصريحات ارتجالية وأداء استعراضي يغذي الجدل واللغط، بدل أن يخدم الصالح العام”.

وخلص “قارعلي” إلى القول بأن “الإعلام لا يمكن أن يستقيم في بيئة سياسية قائمة على الشعبوية والمظهرية”، متسائلًا: “كيف نُطالب بإعلام جاد وفاعل، إذا كانت السياسة نفسها غارقة في الفلكلور؟! الإعلام انعكاس مباشر للسياسة، وإذا كان العود أعوجًا، فكيف يستقيم الظل؟”.