واقع الحال الفكري في الأمة: بين غفلة الحاضر وتاريخ اليقظة

د. بن زموري محمد/ في زمن تتكالب فيه الأمم على أمتنا كما تتكالب الأكلة على قصعتها، ونرى فيه القلوب ممزقة والعقول مشوشة، تُطلّ علينا المآسي من كل جهة: فها هي فلسطين تعاني تحت الاحتلال وتُباد غزة على مرأى من العالم، بينما إيران وإسرائيل تنقلان الصراع إلى مرحلة خطيرة تهدد بإشعال المنطقة كلها، ويقف الكثير من …

يونيو 25, 2025 - 13:27
 0
واقع الحال الفكري في الأمة:  بين غفلة الحاضر وتاريخ اليقظة

د. بن زموري محمد/

في زمن تتكالب فيه الأمم على أمتنا كما تتكالب الأكلة على قصعتها، ونرى فيه القلوب ممزقة والعقول مشوشة، تُطلّ علينا المآسي من كل جهة:
فها هي فلسطين تعاني تحت الاحتلال وتُباد غزة على مرأى من العالم، بينما إيران وإسرائيل تنقلان الصراع إلى مرحلة خطيرة تهدد بإشعال المنطقة كلها، ويقف الكثير من أبناء الأمة بين متفرج ومشتت أو منغمس في الجدل العقيم، في مشهد مؤلم يطرح سؤالًا مرًّا:
هل تعيش الأمة أزمة فكر؟ أم أزمة إرادة؟ أم كليهما؟

أولًا: ضعف الوعي وتشرذم الموقف
الأمة اليوم تُعاني من ضعف الرؤية الاستراتيجية، ومن اختلال الأولويات، وتسطيح القضايا الكبرى.
لم تعد فلسطين قضية المسلمين جميعًا، بل باتت عند بعضهم شأناً «سياسيًا داخليًا» أو قضية إنسانية محضة، لا دينية ولا مصيرية، أما الحرب بين إيران وإسرائيل، فقد عمّقت الانقسام المذهبي، وكشفت هشاشة الفهم السياسي عند كثيرين، إذ بات البعض يصطف بناءً على الطائفة لا المصلحة العليا للأمة.
إن الانقسام في الموقف، والغياب شبه التام للمشروع الفكري الجامع، جعل الأمة في موقع المتلقي دائمًا، لا الفاعل. تستهلك الحدث، ولا تصنعه. تنفعل ولا تُفعّل.

ثانيًا: من الحاضر إلى التاريخ…حين تكرر الحال نفسه
من أبرز المحطات التاريخية التي تُشبه حالنا اليوم، زمن الغزو الصليبي والمغولي في آنٍ واحد.
حينها كانت الأمة ممزقة بين دول طائفية وسياسية، منهمكة في صراعاتها الداخلية، كما كان الحال بين:
العباسيين في بغداد، والفاطميين في مصر، والأيوبيين الذين تنازعوا الشام، والصفويين لاحقًا. وفي هذا الجو المنقسم، سقطت بغداد سنة 656هـ على يد هولاكو، وقبلها سقطت القدس سنة 492هـ على يد الصليبيين،
والناس، كما اليوم، انشغلوا بالقيل والقال، وتحولت الفتاوى إلى وقود سياسي بدل أن تكون وقودًا للإصلاح والبعث.

ثالثًا: قصة استنهاض من التاريخ: عماد الدين، نور الدين، وصلاح الدين
برز عماد الدين زنكي، حاكم الموصل، الذي أدرك أن المواجهة ليست فقط عسكرية، بل فكرية وتربوية أيضًا. فأسس المدارس النظامية، وبث الوعي في الناس، ووضع هدفًا استراتيجيًا: توحيد الشام لطرد الصليبيين.
ثم خلفه ابنه نور الدين محمود، الذي حمل الفكرة، وواصل بناء «مجتمع المقاومة» لا «مجتمع الجدل»، فوحّد الشام ومهد الطريق لصلاح الدين.
جاء صلاح الدين الأيوبي، فكان مشروعًا متكاملاً لإحياء الأمة، لا مجرد قائد عسكري وفي معركة حطين (رمضان 583هـ)، استرجعت الأمة القدس، ليس بسيف فقط، بل بفكرٍ وجهدٍ واستبصار جمع بين العمل والإيمان، بين الوحدة والعدل، بين العقيدة والرؤية.

رابعًا: ما بين الأمس واليوم: لماذا فشلنا؟ ولماذا نجحوا؟
فشلنا لأننا قسمنا قضايانا، فجعلنا فلسطين قضية فلسطينية، وسوريا شأناً داخليًا، واليمن ساحة نفوذ، والعراق ملفًا طائفيًا.
أما العدو الصهيوني فلا يُفرّق، ويعتبر كل شبر من الأرض الإسلامية معركة واحدة.
نجح الغرب وإسرائيل لأنهم يملكون وضوحًا في الهدف، وتنسيقًا في العمل، واستعدادًا لتأجيل خلافاتهم حين يهددهم خطر مشترك. أما إيران، فهي مثال على كيف يمكن لمشروع فكري/ديني أن يبني نفوذًا استراتيجيًا يتجاوز الجغرافيا، رغم اختلافنا مع الكثير من مضامينه.

خامسًا: الحل يبدأ من الفكر
الأزمة ليست في السلاح ولا في المال؛ بل في العقل.
نحتاج إلى نهضة فكرية تُعيد صياغة وعي المسلم العادي:
ليدرك أن قضية فلسطين ليست إنسانية فقط، بل عقدية ومصيرية.
وأن الصراع مع إسرائيل وجودي، لا سياسي فقط.
وأن الفرقة ليست قدرًا، بل خيارًا خاطئًا يمكن تجاوزه.
وأن الوحدة لا تعني الذوبان، بل التنسيق على القضايا المصيرية.

خاتمة: من رماد الغفلة إلى شعلة الصحوة
إن الأمة التي أنجبت صلاح الدين يمكنها أن تُنجب آلافًا مثله، لكن بشرط أن تُعيد بناء وعيها، وتُصحح بوصلتها، وتفهم سنن النهوض والانحدار.
في قصة الغزو الصليبي والغزو المغولي درسٌ واضح:
إذا صحّ الفكر، صفا القلب، وصلُح العمل، ونهضت الأمة. وإن طال ليلُنا، فإن فجرًا قادمًا لا محالة، لكنه لن يُولد إلا من رحم وعيٍ جديد.