السنة النبوية بين النص والمقصد: من الهداية الفردية إلى الإلهام الحضاري
عبد الفتاح داودي */ ليست السنة النبوية مجرد نصوص تُتلى أو أحكام تُسرد في بطون الكتب، بل هي نهر متدفق بالحياة، يسري من معين الوحي إلى أعماق الوجدان، ومن لحظة الرسالة إلى رحابة التاريخ، ومن الفرد إلى الأمة. فهي الوجه العملي للقرآن الكريم، البوابة لفهمه والمجال الرحب لتنزيل مقاصده في واقع الناس. ومن ثمّ لم …

عبد الفتاح داودي */
ليست السنة النبوية مجرد نصوص تُتلى أو أحكام تُسرد في بطون الكتب، بل هي نهر متدفق بالحياة، يسري من معين الوحي إلى أعماق الوجدان، ومن لحظة الرسالة إلى رحابة التاريخ، ومن الفرد إلى الأمة. فهي الوجه العملي للقرآن الكريم، البوابة لفهمه والمجال الرحب لتنزيل مقاصده في واقع الناس. ومن ثمّ لم يكن عبثًا أن يختزلها القرآن في آية جامعة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، لتغدو السيرة النبوية تجسيدًا متكاملاً لرسالة الإسلام في أصفى صورها وأرقى معانيها.
إنّ الاقتصار على ظاهر النصوص الحديثية، والوقوف عند الجزئيات المتناثرة، يُفقد السنة روحها، ويحولها إلى قوالب جامدة لا تعكس عظمة الرسالة. فالحديث الشريف ليس تركيبًا لغويًا محدود الدلالة، وإنما هو مفتاح لروح متجاوزة، تفتح الأفق نحو العدل في الحكم، الرحمة في المعاملة، الحرية في الاختيار والكرامة في الوجود. ولذا أشار الإمام الشاطبي في الموافقات إلى أن «المقاصد أرواح الأعمال»، مؤكداً أنّ النصوص لا تُفهم إلا في ضوء الغايات التي من أجلها شُرعت.
وقد نبه المفكر طه عبد الرحمن إلى خطورة الجمود على ظاهر النصوص، مؤكداً أن النص إذا جُمِّد فقد روحه، وإذا أُعمل فيه النظر الحيّ أحيا الأمة. أما الشاعر والفيلسوف محمد إقبال، فقد ارتقى بالفكرة إلى أفق حضاري واسع حين قال: «الإسلام ليس عقيدةً تودَع في خزائن الماضي، بل طاقة روحية خلاقة تُستأنف في كل جيل». إنّ السنة النبوية بهذا الأفق ليست مجرد دليل للفرد في عبادته الخاصة، بل هي مدرسة كبرى لتكوين الإنسان القرآني، الذي يوحّد بين نقاء الروح وعمق العقل، ويجمع بين العبادة والعمران، بين الذكر والفكر، بين الهداية الفردية والإلهام الحضاري.
فحين تحولت الرسالة النبوية إلى واقع في المدينة المنورة، لم تكتفِ بإصلاح الضمائر، بل شيّدت مجتمعًا رساليًا، دولة عادلة ومنظومة قيمية وحضارية ما تزال تشع نورًا إلى يوم الناس هذا. فالسنة ليست تاريخًا يُروى، بل إمكانية متجددة، وقوة فكرية وروحية قادرة على إحياء الحياة في أزمنة الأزمات، ودروس السيرة لا تفقد قيمتها بمرور الزمن، بل تُستعاد في كل منعطف حضاري.
وإذا كان النص النبوي يهدي الفرد إلى تزكية النفس، فإن غايته الأوسع هي صناعة أمة شاهدة على الناس، تحمل رسالة القيم العليا. فالهداية الفردية لا تنفصل عن النهضة الجماعية، والعبادة لا تنفصل عن البناء، والروح لا تنفصل عن الحضارة. وهنا تكمن عبقرية السنة النبوية بوصفها جسرًا يربط الإنسان بربه، ويربط الأفراد بأمتهم، ويربط الماضي بالمستقبل.
إن استعادة دور السنة النبوية اليوم ليس ترفًا فكريًا ولا حنينًا عاطفيًا، بل هي شرط وجودي لأي مشروع نهضوي. فهي المعيار الأخلاقي والعملي الذي يحمي المجتمعات من الانبهار بالحداثة المنفلتة، ويمنح الإنسان توازنه بين الروح والمادة، بين القيم والوسائل. وقد أدرك المفكر الجزائري مالك بن نبي هذه الحقيقة حين قال: «القضية ليست في أن نملك الأشياء، بل في أن نصبح نحن أنفسنا شيئًا ذا قيمة». والسنة النبوية هي التي تمنح الإنسان تلك القيمة، لأنها ترفعه إلى غايته الوجودية، وتعيد تعريفه بوصفه خليفة لله في الأرض.
من هنا، تبدو الحاجة ملحة اليوم لإعادة قراءة السنة بمنهج مقاصدي شمولي، لا يقف عند ظاهر النصوص، بل ينفذ إلى حكمتها وروحها، ليمدّ الأمة بطاقة متجددة في معركة القيم، ويمنحها القدرة على تجاوز الانبهار بالآخر دون الانغلاق على الذات. فالسنة ليست بديلاً عن الاجتهاد الإنساني، لكنها معيار له، وليست حاجزًا أمام التطور، بل ضمانة له.
وهكذا، فإن السنة النبوية بين النص والمقصد، بين الفرد والجماعة، بين العبادة والعمران، تظل منارة هادية، تلهم المصلحين، وتذكّر الأمة أن النهضة لا تُستورد من الخارج، بل تُستعاد من منابع الوحي. إنها ليست ماضيًا منطفئًا، بل طاقة حضارية متجددة، تمد الأمة بالقدرة على الإقلاع من جديد، من الهداية الفردية إلى الإلهام الحضاري.
ع. داودي