«العِزُّ عز الدين بن عبد السلام»: سُلطــانُ العُلماء!! (الجزء الأول)

أ.البدر فارس/ للحياة الفاضلة مُقوِّمات، منها سلامة الحس والنفس، وسعة العقل والعلم، واستقامة التصرف والعمل، وقُوة العقيدة واليقين، والناس في التحلي بهذه المقومات درجات: {فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُم سَابِقُ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر، آية 32). وهذا مثل من أمثلة البطولة التي خلَّدها تاريخنا الإسلامي العريق، فبقيت قدوة فاضلة في …

يوليو 29, 2025 - 12:52
 0
«العِزُّ عز الدين بن عبد السلام»: سُلطــانُ العُلماء!! (الجزء الأول)

أ.البدر فارس/

للحياة الفاضلة مُقوِّمات، منها سلامة الحس والنفس، وسعة العقل والعلم، واستقامة التصرف والعمل، وقُوة العقيدة واليقين، والناس في التحلي بهذه المقومات درجات: {فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُم سَابِقُ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر، آية 32). وهذا مثل من أمثلة البطولة التي خلَّدها تاريخنا الإسلامي العريق، فبقيت قدوة فاضلة في مجال الإيمان والنضال من أجل الحق والحرية والإنصاف لِجميع المسلمين وعلى رأسهم الأئمة والعلماء… إنه الإمام المُجتهد سلطان العلماء «العِزُّ عز الدين بن عبد السلام»، رجل العروبة والإسلام، وبطل «دمشق» و»القاهرة» معًا في القرن السابع الهجري.

مولده ونشأته وتعلمه
وُلِد العلاَّمةُ «العِزُّ عز الدين بن عبد السلام» في «دِمشقَ» عام 577ه‍، وفتح عينيه على حياة الحرمان، حيثُ كان أبوهُ «عبد السَّلام» فقيرًا جهدَ الفقر، وكان يجُوبُ الأسواقَ بحثًا عن العمل، وحين شبَّ الطفلُ صحِبَهُ أبوهُ ليُـساعِدَهُ في بعض الأعمال الشاقَّة كإصلاح الطرُقِ وحمل الأمتعة وتنظيف ما أمام محلاَّتِ التُّجَّار… وكان أبوهُ «عبدُ السّلاَم» يأخُذُهُ إلى الجامِعِ الأمويِّ إذا حان وقتُ الصَّـلاة، ورآهُ أحدُ شُيُوخ المسجد ودعا له. مات أبوه فلم يجد في نفسه القـوَّةَ على القيام بالأعمال الشاقةِ التي كان يُؤديها أبوهُ، ولم يجِدِ الصبي مكانا يأوي إليه. فذهَبَ إلى ذلك الشيخِ يلتمسُ عندَهُ المُساعدَةَ في الحُصُول على عملٍ يقتاتُ منهُ ومكانا يـبيتُ فيـهِ. فتوسَّط له الشيخُ فألحقوا الصبي بالجامع الأموي يُساعدُ الكبارَ في أعمال النظافةِ وفي حراسة نِعال المُصَلِّين وأهل الحلقات التي يتركونها عند أحد أبواب الجامع، وسمحُوا لهُ بأن ينامَ الليلَ في زاويةٍ بأحَدِ دهاليز الجامع على الرّخام. وذات يومٍ تسَـلَّل إلى أحد حلقاتِ العلم ودسَّ جسدهُ النحيل الصغير بين الطلبة الكبارِ، ورآهُ شيخُ الحَلقة فنهرَهُ وسأله كيف يسمحُ لنفسه أن يجلِس بِثوبٍ مُمزَّقٍ في مجلس للعلم ينبغي للطالب فيه أن يأخذ زينتَـهُ…؟! وجرى الصبي إلى باب المسجدِ وتكـوَّر على نفسه يبكي، فرآهُ الشيخُ الذي ألحقهُ بالجامعِ وهو «الفخرُ بن عساكر» صاحب حلقة الفقه الشَّـافعِي؛ فســأله عمَّـا يُبكيه، فروى لهُ ما كان من أمرِه، فطَـيَّـبَ الشيخُ خاطِرَهُ ووعدَهُ أن يـتعهَّــدَهُ ويتكفَّــل بتعليمه. حتى إذا كانَ الغَـدُ أخذهُ الشيخُ إلى مكتبٍ مُـلحقٍ بالمسجد وأوصى بأن يتعلّم الكتابة والقِراءةَ والخـطَّ وأن يحفظ القُرآن، وتعهَّـد الشيخُ بنفقةِ الصبي. وأقبل «العزُّ» على العلم في شغفٍ عظيم وحفظ القُرآن وأتقنَ القراءة والخط الحَسَنَ وعوَّض ما فاته من سنوات التعليم.

وظائفه ومهامه ومواقفه بعد تكملة تعليمه
وعندما أكمل تعليمهُ العالي عُـــيِّـنَ مُـدَرِّسًا بـ»دمشق» يُـقرِئُ صغارَ طُـلاَّب القرآن ويُعلِّمهم القراءة والكتابة… ثمّ نُـقِل إلى مدرسَـةٍ أعلى يُعلّم الطــلاّب الفقه وأصُوله على المذهب الشَّـافعي. وهيَّــأت لهُ مهنةُ التَّـدريسِ أجرًا طيِّــبا أصلح به حاله، فاستأجر بيتًا لائقًا وتَـزَوَّجَ… ولم يقـتنع بما نال من العلم، فتَـعوّد أن يغشى مكتبة الأمويِّ يقرأ فيها كلَّ ما يقعُ عليه من معَارِف، واستوعب «الـعِزُّ» كلّ ما تركه السَّلفُ من علوم.
وهكذا أصبح الصّبيُّ الفقيرُ عالمًا وشيخًا ذاع صيتُهُ في الكثير من أقطار المُسلمين، حتَّـى أن حاكم «مصر» آنذاكَ الملك «الكامل» بعث إلى أخيه الملك «الأشرف» حاكم «دمشق» يستوصيه خيرًا بالعالم «عز الدين بن عبد السّلام»..
كان «العزُّ بن عبد السّلام» ذا جُودٍ وكرَمٍ، يُروى عنهُ أنهُ كانَ يُقيم بمسكنٍ ضاق به بعد أن أنجب أولادًا، فطلبت منه امرأتهُ أن يشتريَ بيتًا واسِعًا، فوَعَدها خيرًا غير أنه لم يستطع، فقد كان يُنفقُ عن سعة على أهل بيته ويُحسنُ إكرام ضُيُوفه، ويتصدّق بما بقى ولا يدّخر شيئا على الإطلاق. جاءته امرأته وقد جمعت مصاغا وذهبا لها وقالت: اشترِ لنا بهذا بيتًا وبُستانًا، فأخذ المصاغ وباعهُ وتصـدّق بثـمنه. فلما عاد إلى زوجته استقبلتهُ فرحةً: يا سيدي… اشتريت لنا بُستانا! فأجابها: نعم، بُستانا في الجنة! إني قد وجدتُ الناس في شدّةٍ فتصدّقتُ بثمن المصاغ. فأجابته: جزاك الله خيرًا. وكان النّاس يتسامعُون بفَضل الشيخ «عز الدين» فيزدادُ مكانةً واحتراما، وظل الشيخُ يعمل على إماتة البدع وإحياء السّنن في كل ما يصدرُ من أحكامٍ وما يُلقي من دُروس وخُطب وما يُنشئ من فتاوى.
بعد وفاة حاكم «دمشق» الملك «الأشرف» تولى الحُكم وليُّ عهده «الصالح إسماعيل»، فهُرع إلى الفرنجة فحالفهم وفتح لهُم «دمشق» ليشتروا منها السِّلاح من أجل استعماله ضد اِبن أخيه ملك «مصر». فترك الشيخ «عزّ الدين» حلقتهُ في الجامع الأموي، ومضى يخُوضُ في الشعب المتزاحم في الطرقات ويُفتيهم أن بيع السّلاح للفرنجة حرام، كل بيع لهم حرام؛ فمن ارتكب ذلكَ شيئا فقد خان الله ورسُولهُ ولا ذمّة ولا عهد لهُ ودمه مُهدَرٌ ومالهُ مُباحٌ. فأمر السّلطانُ «إسماعيل» بسجن الشيخ، لكنّ أهالي «دمشقَ» ثاروا عليه وأرغموهُ على إطلاق سراحه؛ وأمر السلطانُ بإقالة «العزِّ» من كل مناصبه من التدريس والخَطابَةِ، وأمره بمُلازمة داره وألاَّ يُفتي ولا يجتمع بأحدٍ البتَّة، وكان «العز» في معتقله بداره يقرأُ القرآنَ ويُكرّرُ تلاوةَ قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَكُنَ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ (النساء، آية 97).

هجرته إلى «القاهرة» ومهامه فيها
وقرّر الشيخُ الهجرة واتجه إلى «القاهرة» فبلغها عام 639ه‍، وكان مَـقدَمُ الشّيخ إلى «القاهرة» يومًا من أيّام الزّينَـة، فقد استقبله سُلطان «مصر» آنذاك «الصالح نجم الدّين أيوب» وأهالي «القاهرة» استقـبال الأبطال، وسار الموكبُ يَزفُّ الشيخَ بالتهليل والتكبير والسّلطان إلى جواره ومن خلفه أمراء الدولة والأعيانُ والعُلماء. انتهى الموكبُ إلى حديقةٍ واسعةٍ فَيحاءَ تتوسّطها دارٌ فسيحة أهداها أهالي القرية للشيخ، وتجوّلت امرأتهُ وهي لا تستطيعُ أن تُغالِبَ فرَحها!! أخيرًا ها هُو ذا البُستانُ الذي حلمت أن تعيشَ فيه ولكنهُ أجمل مما حلمت فهو أفسح، وهو بعدُ يقعُ على مشارف النيل. وبعد ذلك بأيّـامٍ عُيِّن الشيخُ من طرف سُلطان «مصرَ» إماما وخطيبًا لجامع «عمرو» وأصبح فيما بعدُ مُفتيَ «مصر»… ولِعِلمه واجتهاداته عيَّنهُ السلطانُ قاضيا للقضاة، ولم يكد يتولى المنصب حتى لاحظ أن أمراءَ البلاد وقادة الجيش ليسُوا من أهل «مصرَ»، وليسُوا أحرارًا على الإطلاق، فبدأ يُطبِّـقُ عليهم من أحكام الشريعة ما يُطبق على العبيد! فأبطل كل ما أبرمه الأمراء المماليك من عُقُود بيعٍ وإجارَة… وحتى عُقود الزواج!! وأمر الشيخ القاضي ببيع الأمراء المماليك، وحاول سُلطان «مصر» منعَـهُ تنفيذَ هذا القرار ولكن دون جدوى. وهكذا عُرِض الأمراءُ المماليكُ للبيع في مزادٍ علني، فتقدّم السلطان ودفع ثمنا من ماله الخاص حتى اشترى جميع الأمراء المماليك وأعتقهم لوجه الله فأصبحُوا أحرارًا؛ حينها صحّح الشيخُ عُقُودهُم بما فيها عُقودُ الزَّواج، أمّا ما قبضهُ الشيخُ من ثمنهم فقد وزّعهُ على الفقراء وأصحاب الحاجات وبصفَةٍ أهل العلم وطُلاَّبه، وأقام به مكاتبَ لتعليم القرآن والخط وعُلوم اللغة.
يتبع