قلق الهوية الأنثوية و اضطراب الرجولة
أ د ليلى محمد بلخير/ تثير مسألة قلق الهوية الأنثوية أزمة كبيرة على كل الأصعدة في حياتنا المعاصرة،ورغم أننا في زمن النساء بلا ريب، إلا أن الأنثى لا تعرف السكينة والاطمئنان والسعادة بعيدا عن هويتها، ولهذا فرحت بعض الناشطات النسويات فرحة عظمى بقرار المحكمة البريطانية. الذي ينصر الهوية الأنثوية الخالصة وينص على «أن الأنثى هي …

أ د ليلى محمد بلخير/
تثير مسألة قلق الهوية الأنثوية أزمة كبيرة على كل الأصعدة في حياتنا المعاصرة،ورغم أننا في زمن النساء بلا ريب، إلا أن الأنثى لا تعرف السكينة والاطمئنان والسعادة بعيدا عن هويتها، ولهذا فرحت بعض الناشطات النسويات فرحة عظمى بقرار المحكمة البريطانية. الذي ينصر الهوية الأنثوية الخالصة وينص على «أن الأنثى هي التي ولدت أنثى بيولوجيا»، ليخرج من هذا التعريف الرجال الذين خضعوا لعمليات تحويل جنس، ولكن لماذا يتزايد الاقبال في الغرب خاصة على نبذ الرجولة؟ ليس فقط لأن جسد الأنثى له سلطة كبرى وهيمنة على كل الأصعدة خاصة في ظل ثقافة الصورة. بل لأن الرجولة تبحث في كل المقامات عن البطولة، فإن عجز الرجل المعاصر أن يكون رجلا كاملا، جعله يتطلع إلى البطولة بين النساء، وهذا ماحدث لبطلة التنس العالمية التي صرحت أنها خضعت لعملية تغيير جنس ولم تولد أنثى على الإطلاق، وغيره الذي لم يحصل مرتبة في عالم الغناء يلجأ للبوس الأنثى وصوت الأنثى وحركات الأنثى، حتى يتألق ويرتفع نجمه في عوالم الفن.
والحقيقة المرة إن الذي لم يتمكن من آداء دور الرجولة على أكمل وجه، يبحث عن البطولة خارج دوره وسمته لعله يحظى بشيء من ذلك في عوالم أخرى. مما قلص في واقعنا الاجتماعي من وجود النماذج الرجالية، التي تصلح كنماذج للاقتداء والتمثل من قبل الناشئة، والتي تكبر وتسير في الحياة فعليا بلا آباء ولا مرجع تعود إليه.
كيف يصير الفتى رجلا في المستقبل وهو يفتقر لنموذج رجولي فذ داخل بيته؟ وفي المؤسسات التعليمية وفي مصالح البريد والإدارات والأسواق والساحات؟ وفي ظل تأنيث الزمان والمكان 1)، من أين تحصل الفحولة؟ وكيف نجد معانيها ؟ في عوالم سيطرة فيها الأنثى على كل المجالات ومع تزايد إحصاءات الطلاق، وظواهر التفكك الأسري، بحيث أصبح الأمر شائعا أن تجد إمرأة وحدها يتبعها أطفال من كل الأعمار أينما سرنا وفي كل مكان، وتزداد حوادث جنوح الأحداث، وتمرد الشباب،يكثر الانحراف والشذوذ، والاختلالات النفسية والعصبية، ويفقد المجتمع السيطرة على أوضاعه.
عندما تصل المرأة لقرارفصم الرابطة الزوجية، يحضر معنى الاستقواء على الرجل والنظر إليه كسلعة أو شئ ينتفي وجوده مع انتفاء المصلحة، في ظل تنامي الاعتداد بالبعد الانتاجي المادي للأنثى، ودورها في التنمية المستدامة، تعكس إحصاءات الطلاق والتفكك الأسري الواقع الحزين، والوجه الآخر لفشل ذريع لأي تنمية في ظل انهيار الأسرة.
1 التربية الأسرية الناعمة وعزوف الشباب عن الزواج :
ويمكن الربط بين شيوع التربية الأسرية الناعمة، واضطرابات الهوية، فالتنشئة الناعمة حاليا، أدت إلى افتقار الشباب من الجنسين، للتأهيل القيادي داخل البيت وخارجه، للأسف نلمس تضخما كبيرا، على مستوى الشهادات العليا، وافتقارا على مستوى الخبرات الاجتماعية والمهارات اليدوية، يعيشون وسط بيوت غير مطمئنة لم تعرف المودة والرحمة على الاطلاق، يفضلون العزوبية لأن ثقافتهم عن الزواج مشحونة بالسموم والأغاليط وصدمات الطفولة، وأيضا سيادة التربية الناعمة في ظل غياب الأب، جعلت الرجال يكبرون بلا رجولة، لافتقارهم للنموذج الأبوي. والنساء يكبرن بلا أنوثة، لأن أمهاتهن مشغولات بالوظائف التي تدر أموالا، على وظيفة الأنثى الطبيعية لأنها غير ربحية.
فنجد ترددا كبيرا وسط الشباب لبناء علاقة زوجية قارة ومؤبدة، ورغم كل وسائل التواصل المتاحة وغير المتاحة، بالعكس ساعدت البيئة الرقمية على التواصل فتأججت عواطفهم بحثا عن العلاقات العابرة والمؤقتة(2)، وظهرت لدى المتزوجين صعوبات جمة في التواصل الواقعي، واندفاع للتواصل الافتراضي، وكثرت معاناة النساء والرجال من الخيانة الالكترونية.
بالإضافة إلى مساعدة البيئة الرقمية على نشر التنشئة الناعمة، يمكن القول أن إضطراب الهوية لدى البنات والشباب، من أهم أسباب العزوف عن الزواج في وقتنا هذا، لأن الرجل الكامل يبحث عن أنثى طبيعية فيصعب عليه العثورعلى ضالته فينتكس ويتراجع، والأنثى الكاملة لا تقبل بأشباه الرجال، وهذا ما زاد سيل النعومة اكتساحا للوجود البشري برمته.
2 _ اضطراب الرجولة وفوضى الهويات
وبطبيعة الحال يشكل اضطراب الرجولة في زمننا رافدا كبيرا لفوضى الهويات، وهو المتسبب الرئيسي في قلق الهوية الأنثوية، بل في مأساة المرأة المعاصرة واغترابها، عندما انهمكت في إثبات تفوقها على الرجل وقدرتها على تحمل كل المسؤوليات والمهام دفعة واحدة، لأن تصدرها لمهام الرجل، لن يعفيها من مهامها الطبيعية والخاصة بها وحدها (الحمل، الولادة، وتربية الأطفال)، فكانت النتيجة أنها تسببت في استقالة الرجل عن دوره، وأهدرت أنوثتها في أعمال متعددة، ومشاق لا قبل لها بها، مما أفرز لنا نماذج مشوهة وفوضى وانتكاسة على كل الأصعدة، وهذا يؤثر سلبا على مسارات الإنسان المعاصر.
ينصب القلق مباشرة على تفكيك التراحم داخل البيت لأن الأنثى فيه مشغولة بالمهمة الإنتاجية المادية على حساب المهمة التربوية والدفء الوجداني الذي يربط أواصر الأفراد داخل البيت ومن أهم مظاهر اضطراب الرجولة في زمننا أن الرجل المعاصر، لا يرغب في تحمل المشاق، بل يهتم بالترفيه والمرح، ومحاسبة الزوجة على زلل الانفاق وخوارم الأخلاق. فعندما لم يملك زمام الرجولة أصبح متطبعا على طبع النساء في كثرة الثرثرة وافتعال المشاكل وصناعة النكد، يدعمها لتعمل، وينفق أموالها على هواه، وينفق وقته متكلما، يظهر التبرم والضجر جراء التقصير الذي لمسه من عملها خارج البيت.
ومن جهة أخرى تعد قضية الاستقلال المالي للنساء، من أهم مسببات نسف قوامة الرجال، وأيضا تزايد إعتداد الأنثى بسلطويتها على البيت، عامل هدم لاستقراره لا محالة، خاصة في وقتنا الحالي حيث تقول الإحصاءات أرقاما مخيفة، عن تصدر النساء لمعظم المراكز الهامة في المجتمع، بالتجاور مع إحصاءات الطلاق والخلع، حيث أصبحت الأنوثة في زمننا، مزية كبرى يتوجب الاعتداد بها والتمركز حولها، بعد نضالات حقوقية طويلة الأمد لتحقيق المساواة ونبذ التمييز، جاءت النتيجة عكسية (3)، شكليا الأرقام تقول أن الزمان للنساء، والمكان للنساء، والسلطة للنساء، ولكن واقعيا هو أتعس عصر عرفته الأنثى، لأن الأمر أحدث خلخلة كبيرة على كل المستوايات، وفوضى في الهويات، جعلها تنسى طبيعتها تحمل مشاق ومهام إضافية أهدرت طاقتها وانتكست أنوثتها. ولم تعد لنا نماذج أنثوية طبيعية تؤثر في تربية الأنثى تربية آمنة مطمئنة. لأن قلق الانسانية يتزايد مع اغتراب الأنثى عن موقعها الطبيعي.
3 _ العنف ضد الرجل وانهيار الفحولة
تلعب وسائل الاعلام دورا كبيرا، في نشر خطاب الكراهية والعدوانية والعنف ضد الرجل، مما أجج فتيل صراع لا يخفت حتى يندلع، لاستهداف الأسرة برمتها، خاصة من جراء إثارة الشبهات حول دواعي وموجبات قوامة الرجل على البيت، وضرورة إعادة النظر في رئاسته للأسرة، مادامت المرأة تقوم بالإنفاق وتضطلع بمهام السيادة والسلطة في الوسط الأسري والإجتماعي، وهذا جراء تراجع النموذج الأبوي، وتهميش دوره في تربية الأبناء ورئاسة الأسرة وخلخلة مفهوم القوامة في زمننا هذا، وإفساح المجال لإعلاء هوية الأنثى على حساب المضمون القيمي والاجتماعي، مركزية حضورها لاقترانها بالبعد الانتاجي المادي فقط.
ومن جهة أخرى تتفاقم صور اضطراب الرجولة في الحياة الأسرية بصورة خطيرة ومدمرة للكيان الإنساني، بحيث أصبحت مألوفة صور الديوثة ، و تحييد معاني الرجولة في أشكال باهتة وخفية، وكثرت أحداث العنف ضد الرجل وأحاديث عقوق الأبناء للآباء.
4 _ انتكاسة الفطرة (إضطراب الرجولة وتوحش النساء )
لماذا تتطلق النساء في واقعنا بهذه الصورة الفظيعة؟ لماذا تلجأ الكثيرات للخلع وفصم العلاقة الزوجية؟ أكيد ليس الاستقلال المادي واستقواء المرأة وحده السبب. بل هناك ماهو خفي ومؤثر ومتعلق بخصوصيات الهوية عند الرجال بالدرجة الأولى.
ويجب أن ندق ناقوس الخطر لأن قيم الرجولة في خطر، وقيم الأنوثة في خطر، ومكمن الخطورة في أننا نعيش أكثر الأوقات انتكاسة للفطرة السليمة، لأن الأنثى لا تركن إلا للرجل الذي يتصف بمعاني الرجولة الكاملة. وتأنف على نفسها البقاء في عصمة المخنثين المتحولين وأشباه الرجال.
وتجد في زمننا الرجل على نوعين، النوع الأول يتصف بالنعومة ولا غيرة له على أهله،بعيد عن القوامة ماديا ومعنويا فتسترجل المرأة وترفضه صمتا أو في العلن، والنوع الثاني يتسم بالخشونة معها، ناعم ضحوك مع غيرها، بدل أن يكون حاميها والقائم على شؤونها، يشحذ فحولته الزائفة ضدها. يجعل دوره كرجل في حياتها أن يصعب عليها الحياة وفقط. وهذا النوع مرفوض ومنبوذ بالنسبة للأنثى الطبيعية، ولهذا أفرز هذا الوضع المعقد لاضطراب الرجولة، ظاهرة توحش النساء ونظرتها للرجل كسلعة أو شيء مفرغ من معانيه وصفاته .
. النوع الأول متفلت من قوامته ورجولته، والنوع الثاني يتخذ الرجولة شكلا للقهر والتنكيل، فلا عزة لأنثى إلا مع رجل يحمل صفات الرجولة فيغنيها عن الكون كله. والأمر بعيد عن الاستقلال المادي للمرأة بل له علاقة بانهيار قيم الرجولة وهذا هو الصمام الضابط للأسرة والمجتمع.
وأخيرا يمكن القول إن اضطراب الرجولة في واقعنا محنة كبيرة، ومفسدة عظيمة، أدت إلى تراجع قيم الأنوثة وتوحش النساء في الواقع الاجتماعي وفي المواقع الإلكترونية، وعلينا أن نلتفت لهذه الظواهر المعرقلة لحركية المجتمع، ونؤسس لمنهج إصلاحي متكامل يستهدف معالجة الباطن قبل الظاهر. لأن النظرة التجزيئية للمشكلات الأسرية تزيد المفاسد، وتضيع فرصا ثمينة على الإصلاح.
الهوامش
( 1) – جيل ليبو فيتش، ترجمة دينا مندور، المرأة الثالثة، المشروع القومي للترجمة القاهرة، ط 1 2012 ، ص 17
(2 ) – أو لريش بك، إليزابيت غرنز هايم، ترجمة حسام الدين بدر، الحب عن بعد، بغداد ص 67
( 3) – مجموعة من المؤلفين، المرأة والفن والإعلام، من التنميط إلى التغيير، منظمة المرأة العربية، ط1بيروت نوفمبر2021 ص 391 .