بين عدالة رب السماء ومساواة أهل الأرض… أين تقف المرأة؟ اتفاقية سيداو في الميزان

د. بن زموري محمد */ مدخل: بين قاعة الأمم المتحدة وصوت القرآن في مساء بارد من ديسمبر عام 1979، اجتمع ممثلو الدول في قاعة الأمم المتحدة بنيويورك ليصوتوا على اتفاقية جديدة تحمل عنوانًا لامعًا: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، أو كما اصطلح على تسميتها لاحقًا: سيداو. ارتفعت الأيادي بالموافقة، وتعالت التصفيقات، وأعلنت …

سبتمبر 2, 2025 - 15:47
 0
بين عدالة رب السماء ومساواة أهل الأرض… أين تقف المرأة؟ اتفاقية سيداو في الميزان

د. بن زموري محمد */

مدخل: بين قاعة الأمم المتحدة وصوت القرآن
في مساء بارد من ديسمبر عام 1979، اجتمع ممثلو الدول في قاعة الأمم المتحدة بنيويورك ليصوتوا على اتفاقية جديدة تحمل عنوانًا لامعًا: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، أو كما اصطلح على تسميتها لاحقًا: سيداو. ارتفعت الأيادي بالموافقة، وتعالت التصفيقات، وأعلنت رئيسة الجلسة أن العالم قد خطا خطوة «تاريخية» نحو مساواة المرأة مع الرجل.
وفي الوقت نفسه، في آلاف المساجد من أقصى العالم الإسلامي إلى أدناه، كان القرآن يُتلى بصوت مهيب:
«وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» [البقرة: 228].
بين هذا المشهد الأممي وذلك الصوت القرآني، بدأت رحلة الجدل: أي عدالة أحق للمرأة، أهي المساواة المطلقة التي تتبناها سيداو، أم العدالة الربانية التي تنظم العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار الأسرة والمجتمع؟

أولاً: ما هي اتفاقية سيداو؟
سيداو وثيقة دولية تتكون من ثلاثين مادة، تُعنى بالمرأة في جميع جوانب حياتها: السياسة، التعليم، العمل، الصحة، الزواج، الطلاق، الجنسية، التنقل، والمشاركة في الحياة العامة.
أبرز ما جاء فيها:
المساواة المطلقة بين الجنسين في الحقوق والواجبات.
إلزام الدول بتغيير أو إلغاء أي قوانين أو أعراف تخالف هذه المساواة.
إنشاء لجنة دولية تتابع التزام الدول وتطالبها بتقارير دورية.
ولذلك وصفتها الأمم المتحدة بأنها «دستور عالمي لحقوق المرأة».

ثانيًا: السياق التاريخي والفكري لسيداو
لا يمكن فهم سيداو دون العودة إلى الحركة النسوية الغربية التي نشأت في أوروبا وأمريكا مع بدايات الثورة الصناعية.
في القرن التاسع عشر، خرجت النساء يطالبن بحقوق أساسية: التعليم، التصويت، الملكية.
ومع منتصف القرن العشرين، وبعد الحربين العالميتين، تطورت الحركة إلى المطالبة بالمساواة التامة، واعتبار الأدوار التقليدية للمرأة (الأمومة، رعاية البيت) نوعًا من التمييز.
في السبعينيات، اجتمع هذا الفكر مع موجة العولمة الحقوقية، فكانت النتيجة صياغة سيداو عام 1979.
إذن، سيداو ليست مجرد وثيقة قانونية، بل هي نتاج فكر فلسفي غربي يرى أن التحرر يعني التشابه التام بين الرجل والمرأة، لا التكامل بينهما.

ثالثًا: المواد المثيرة للجدل
من بين 30 مادة، ركّز الجدل على مواد بعينها:
1. المادة 2: تطالب بإلغاء أي قوانين أو أعراف تخالف المساواة، حتى لو كانت مستمدة من الشريعة.
2. المادة 5: تعتبر الأدوار التقليدية للمرأة في الأسرة صورة من صور التمييز، وتدعو لتغييرها.
3. المادة 9/2: تمنح المرأة الحق في أن تعطي جنسيتها لأولادها مثل الرجل.
4. المادة 15/4: تساوي بين الرجل والمرأة في اختيار محل السكن والتنقل.
5. المادة 16: تدعو إلى المساواة الكاملة في الزواج، الطلاق، الميراث، القوامة، وحضانة الأطفال.
هذه المواد بالذات اصطدمت بالأنظمة القانونية في الدول الإسلامية، لأنها مستندة إلى نصوص شرعية قطعية.

رابعًا: موقف الجزائر
الجزائر صادقت على الاتفاقية عام 1996، لكن بتحفظات، أبرزها:
المادة 2: لأنها قد تُلزم الجزائر بتغيير أحكام منبثقة عن الشريعة.
المادة 9/2: بخصوص جنسية الأبناء (رُفع التحفظ عنها عام 2005 بعد تعديل قانون الجنسية).
المادة 15/4: حول حرية السكن والتنقل (رُفع التحفظ عنها لاحقًا).
المادة 16: المتعلقة بالزواج، الطلاق، الميراث، القوامة.
هذه التحفظات تعكس حرص الجزائر من خلالها على حماية مرجعيتها الإسلامية، خصوصًا أن الدستور الجزائري ينص على أن الإسلام دين الدولة، وأن قانون الأسرة الجزائري مستند بشكل مباشر إلى أحكام الشريعة.
لكن الضغوط الأممية مستمرة، إذ تطالب لجان سيداو الجزائر برفع هذه التحفظات، معتبرة أن بقاءها «إعاقة» للمساواة الكاملة.
والملاحظ أن التعديلات الأخيرة على قانون الأسرة تُثير جدلًا عمليًا، مثل مسألة حرية المرأة في السكن والتنقل، والتي تطرح تحديات على مستوى القضاء والمجتمع، لما قد تسببه من إشكالات في قوامة الرجل، وفي مفهوم النشوز، بل وتمتد إلى حرية البنات البالغات سن الرشد في اختيار محل إقامة مختلف عن أسرتهن. وهنا تبرز الحاجة إلى ضبط هذه القضايا بما يوافق أعراف وعادات المجتمع الجزائري المبنية أساسًا على مبادئ الشريعة الإسلامية.

خامسًا: مقارنة سيداو بالشريعة الإسلامية
لفهم المفارقة، يجدر أن نعرض أمثلة محددة:
1. في الأهلية والملكية
سيداو: مساواة كاملة في الملكية والتصرف.
الإسلام: سبق ذلك منذ 14 قرنًا، فأعطى المرأة حق التملك والإرث والبيع والشراء دون وصاية.
2. في الزواج
سيداو: المساواة المطلقة في عقد الزواج وفسخه.
الإسلام: اشترط رضا المرأة في الزواج: «لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن» [البخاري ومسلم].
لكنه جعل الطلاق بيد الرجل غالبًا، وعوّض المرأة بحق الخلع.
3. في الميراث:
سيداو: تدعو للمساواة في الميراث.
الإسلام: جعل للذكر مثل حظ الأنثيين في بعض الحالات، لكنه أعطى المرأة نصيبًا أكبر أو مساويًا للرجل في حالات أخرى. الأصل أن نظام الميراث قائم على العدالة وتوزيع المسؤوليات، لا المساواة الحسابية.
4. في القوامة
سيداو: تعتبر القوامة نوعًا من التمييز.
الإسلام: جعل القوامة مسؤولية للرجل، مقرونة بالنفقة والحماية والرعاية: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ» [النساء:34].

سادسًا: بين المساواة والعدالة
الفرق الجوهري بين سيداو والشريعة هو أن:
سيداو تبني على المساواة المطلقة، أي تشابه الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة.
الإسلام يبني على العدالة، أي إعطاء كل طرف ما يناسب فطرته ودوره ومسؤوليته.
فالمرأة في الإسلام مكرمة، شريكة، ولكنها ليست نسخة عن الرجل.

سابعًا: الحصانة الذاتية أمام العولمة
في زمن العولمة، لم تعد الاتفاقيات مجرد نصوص على الورق، بل أصبحت أدوات ضغط سياسي واقتصادي. وهنا يبرز سؤال: كيف نحمي هويتنا الإسلامية؟
1. الوعي: أن نعرف سيداو بعمق، ونكشف ما فيها من إيجابيات وسلبيات.
2. الإصلاح الداخلي: معالجة الثغرات الواقعية مثل العنف الأسري أو حرمان البنات من الميراث، حتى لا تكون ذريعة للتدخل الخارجي.
3. الانفتاح الواعي: نقبل ما ينسجم مع شريعتنا (التعليم، منع العنف)، ونرفض ما يخالف النصوص القطعية.
4. إبراز النموذج الإسلامي عالميًا: عبر بحوث ومؤسسات تُظهر أن الإسلام سبّاق في تكريم المرأة.
5. حصانة ثقافية: بتربية جيل يعتز بدينه ويفهمه، فلا تنطلي عليه شعارات «المساواة» إذا كانت تعني التخلي عن الخصوصية الإسلامية.

خاتمة: أين نقف حقًا؟
نحن بين خيارين:
مساواة مطلقة قد تتجاهل الفوارق الفطرية وتذيب الخصوصيات.
أو عدالة سماوية تنظر إلى المرأة كإنسانة لها دورها وكرامتها وحقوقها، مع اختلاف في المسؤوليات.
وهنا تبقى كلمة الفصل:
إن العدل الذي جاء به الإسلام أوسع وأعمق من كل مواثيق البشر، وإن كرامة المرأة في شريعة الله لا تضاهيها شعارات تُرفع في قاعات الأمم المتحدة.
{ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون} [المائدة: 50].