الرئيس ماكرون في مواجهة الرفض السياسي والاحتجاج الاجتماعي والغضب النقابي
أ. عبد الحميد عبدوس/ كل المؤشرات أصبحت تدل على أن فرنسا تعيش مرحلة انسداد سياسي، وتقهقر اقتصادي وتأزم اجتماعي، منذ تولي الرئيس إيمانويل ماكرون حكم فرنسا في عهدتين متواليتين. فبعد تسعة أشهر من تعيين حكومة، فرانسوا بايرو، سقطت، يوم الاثنين8 سبتمبر الجاري، بشكل مدو إثر تصويت البرلمان الفرنسي بحجب الثقة عنها بأغلبية كبيرة (364صوتا من …

أ. عبد الحميد عبدوس/
كل المؤشرات أصبحت تدل على أن فرنسا تعيش مرحلة انسداد سياسي، وتقهقر اقتصادي وتأزم اجتماعي، منذ تولي الرئيس إيمانويل ماكرون حكم فرنسا في عهدتين متواليتين. فبعد تسعة أشهر من تعيين حكومة، فرانسوا بايرو، سقطت، يوم الاثنين8 سبتمبر الجاري، بشكل مدو إثر تصويت البرلمان الفرنسي بحجب الثقة عنها بأغلبية كبيرة (364صوتا من أصل573 نائبا، وهي نسبة تجاوزت عدد الأصوات التي أسقطت حكومة سلفه ميشال بارنيه 331، من أصل 574).
سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى تكليف وزير الجيوش في الحكومة الساقطة، سيباستيان لوكورنو، بتشكيل حكومة جديدة، في مناورة مكررة ومفضوحة للاحتفاظ بالسلطة، رغم فقدان ثقة الأغلبية الشعبية. يعد، سيباستيان لوكورنو، من السياسيين اليمينيين المقربين من زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، ويعتبر كذلك بمثابة الرجل الوفي للرئيس ماكرون ومن السياسيين الموالين له. تقلد عدة مناصب حكومية خلال العهدة الأولى والثانية للرئيس، إيمانويل ماكرون، وظل بذلك أطول وزراء ماكرون بقاء في التشكيلات الحكومية المتوالية. ردود فع الطبقة السياسية عن تكليف، سيباستيان لوكورنو، بتشكيل حكومة جديدة جاءت في أغلبها رافضة وغاضبة، حيث اعتبر جان لوك ميلانشون، زعيم حزب «فرنسا الأبية» التعيين: «مهزلة بائسة». بينما اعتبرت مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف خطوة الرئيس ماكرون بمثابة: «آخر طلقة ماكرونية». وذهبت زعيمة «حزب الخضر»، مارين تونديلير، إلى وصف تكليف، سيباستيان لوكورنو، بأنه: «استفزاز». أما أشد الآراء انتقادا من الطبقة السياسية الفرنسية لتكليف وزير الجيوش في الحكومة الساقطة بتشكيل حكومة جديدة لتجاوز الانسداد السياسي ومعضلة تضخم الدين الفرنسي، فقد صدرت من الدبلوماسي والشاعر، دومينيك دوفيلبان، رئيس الحكومة الأسبق، وقائد الدبلوماسية الفرنسية في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، الذي اعتبر بأنه «يجب ألا يكون رئيس الحكومة المعين مجرد كليب لطيف عند رئيس الجمهورية، لأن رئيس الحكومة يجب أن يشعر بأن له واجبات تجاه المواطنين، وليس تجاه رئيس الجمهورية».
بعد يوم واحد من تعيين رئيس الحكومة الجديد يوم الثلاثاء 9 سبتمبر 2025، غرقت فرنسا، في 10 سبتمبر الجاري، تحت موجة احتجاجية كبيرة دعت إليها قبل عدة أيام، حركة المجتمع المدني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحت عنوان: «لنغلق كل شيء». شارك في التظاهرة ما بين 200 ألف مشارك حسب إحصائيات الحكومة، و250 ألف حسب تقدير المنظمين. هذه الموجة الاحتجاجية الكبيرة، تصدى لها وزير الداخلية، برونو روتايو، بصرامة أمنية كبيرة، وقمع بوليسي شرس، اعتمد على تدخل ما يقرب من 80 ألف شرطي انتشروا في جميع أنحاء فرنسا، وكانوا مدعومين بمركبات مدرعة وطائرات هليكوبتر. تمخضت العمليات البوليسية عن إلقاء القبض على ما يقرب من 500 شخص. إذا كان زعيم حزب «فرنسا الأبية»، جان لوك ميلانشون، قد هنأ نفسه والمنظمين على نجاح تظاهرة «لنغلق كل شيء»، مما يوحي بقربها من التوجه اليساري، فإن وزير الداخلية، برونو روتايو، تفاخر في ندوة صحفية بـ «إفشال عملية تعطيل فرنسا» . كما أن محافظ شرطة باريس اعتبر على قناة» «Cnews (سي. نيوز) اليمينية المتطرفة بأن «الشرطة حققت انتصارا بإفشال شل البلاد». حركة «لنغلق كل شيء»، الاجتماعية الاحتجاجية جاءت بعد سبع سنوات من الإنذار القوي الذي أطلقته حركة «السترات الصفراء» في شهر ماي 2018، خلال العهدة الأولى للرئيس ماكرون ضد سياسات التقشف والظلم والتعسف الواقع على الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة مقابل زيادة الامتيازات الممنوحة لطبقة الأغنياء وكبار الرأسماليين.
لقد استهلك الرئيس إيمانويل ماكرون منذ انتخابه للرئاسة في شهر ماي 2017سبع رؤساء حكومات ( ثلاثة رؤساء حكومات في العهدة الرئاسية الاولى، وأربعة منهم في منتصف العهدة الثانية) في محاولة عبثية للخروج من الازمة السياسية والاقتصادية، لكن اغلب الفرنسيين أصبحوا مقتنعين بأن تصدع السلطة التنفيذية، واستمرار الأزمة السياسية سببه الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه، لأنه كما يقول المثل الصيني: «السمك يتعفن من الرأس». كان آخر رئيس حكومة عينه إيمانويل ماكرون هو السياسي المخضرم فرانسوا بايرو، ولكنه راكم الاخطاء والسقطات والفشل طوال 9 أشهر (ديسمبر2024 إلى سبتمبر 2025) حتى أن حصيلته التي قضاها على رأس الجهاز التنفيذي أهلته لاحتلال مرتبة رئيس الحكومة الأقل شعبية منذ إليزابيث بورن، مرورا بغبريال آتال، وميشال بارنييه. ومع ذلك فقد كان صريحا ودقيقا في تشخيص وضع فرنسا عند مغادرته الحكومة بقوله: «فرنسا تزداد فقرا عاما بعد آخر.. وإسقاط الحكومة لن يبعد الخطر».
قفزت نسبة الفقر في فرنسا من 14,4 في سنة 2023 إلى 15,4 في سنة 2025 (أي قرابة عشرة ملايين فقير) بينما ازداد عدد المليونيرات بـ 20 ألف مليونير ليصل العدد الإجمالي إلى 2,8 مليون مليونيرا. وتحتل فرنسا بذلك المرتبة الثالثة عالميا في ترتيب الدول التي تضم أكبر عدد من المليونيرات. ولكنها تحتل المرتبة السابعة اقتصاديا في العالم، بينما وصلت نسبة البطالة بها في 2025 إلى قرابة 7,5 من السكان.(2,5 مليون عاطل) وبلغ الدين الفرنسي (3.9 تريليونات دولار) في نهاية الربع الأول من العام الجاري، وهو ما يمثل 114% من الناتج القومي…
كانت فرنسا سنة 2010 خامس اقتصاد في العالم، ثم فقدت مكانتها لصالح بريطانيا، ثم فقدت مكانتها كذلك في سنة 2019 لصالح الهند لتصبح في المرتبة السابعة عالميا. لكن أكبر المستفيدين من الوضع الاقتصادي الفرنسي الحالي هم أثرياء فرنسا من أمثال الملياردير فانسان بولوري عراب التقريب بين اليمين الجمهوري واليمين الشعبوي المتطرف، والذي وضع إمبراطورتيه الإعلامية في خدمة حزب «التجمع الوطني» لمارلين لوبان، حيث استفاد هذا الثري الفرنسي من خصومات ضريبية قدرت بملايين اليوروهات في ظل الازمة الاقتصادية.
لا يبدو أن هناك فرصة لأن ينجح رئيس الحكومة المعين الجديد سيباستيان لوكورنو، خامس رئيس حكومة في ظرف عامين في ما فشل فيه سابقوه خصوصا أن أقوى تشكيلتين سياسيتين فرنسيتين حزب «فرنسا الأبية» اليساري، وحزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف يعتزمان التصويت بحجب الثقة على حكومته وبرنامجه، خلال مثوله المقبل أمام البرلمان. وحتى لو افترضنا أن لوكورنو، استطاع اجتياز عقبة التصويت بحجب الثقة عنه بعد تشكيل حكومته الجديدة وعرض ميزانية 2026على البرلمان، فهل سيستطيع ماكرون ورئيس حكومته الجديد لوكورنو مواجهة عواصف خريف الغضب الذي تلوح في الأفق؟ فسوف تستيقظ فرنسا في 18سبتمبر الجاري على وقع وهدير الاحتجاجات التي دعت إليها كل التنظيمات النقابية الكبرى. كل هذا الضغط السياسي والاحتجاج الاجتماعي والغضب النقابي يصب في مجرى واحد هو الرفض المتصاعد لبقاء إيمانويل ماكرون على سدة الرئاسة، لأنه الذي أنهى عهد الكرامة والنزاهة السياسية في فرنسا ـ حسب كثير من المتابعين ـ بتعمده تقديم هدايا سياسية لليمين المتطرف، كلما حانت فرصة تشكيل حكومة جديدة، كما سبق أن فعلها باستبعاد تحالف اليسار المتصدر في الانتخابات التشريعية من تشكيل الحكومة.