المُجاهد «الطاهر فارس» 1416-1341 هـ /1995-1923م
أ. البدر فارس/ مولده ونشأته وتعلمه هو الطاهر فارس بن أحمد بن سلطان بن علي بن بلقاسم، وأمه هي السيدة مبروكة سليمي بنت صالح، المولود بقرية «بحيرة الأرنب» جنوب ولاية تبسة سنة 1923م الموافق لسنة 1341ه، وهو من قبيلة «النّمامْشَة» الأمازيغية الشهيرة، ومن عشيرة «الزّْرَادْمَة» المعروفة بتاريخها البُطولي المجيد والجهادي المُقاوم للوجودِ الاستعماري الفرنسي. وُلِدَ …

أ. البدر فارس/
مولده ونشأته وتعلمه
هو الطاهر فارس بن أحمد بن سلطان بن علي بن بلقاسم، وأمه هي السيدة مبروكة سليمي بنت صالح، المولود بقرية «بحيرة الأرنب» جنوب ولاية تبسة سنة 1923م الموافق لسنة 1341ه، وهو من قبيلة «النّمامْشَة» الأمازيغية الشهيرة، ومن عشيرة «الزّْرَادْمَة» المعروفة بتاريخها البُطولي المجيد والجهادي المُقاوم للوجودِ الاستعماري الفرنسي.
وُلِدَ في أُسرة فلاحية اكتوت بقهر السياسة الاستعمارية، لكنها مَيسورة الحال، تعيش من فلاحة الأرض وتربية المواشي… عاشَ في أُسرة مُحافظة مُحبة للعلم وخاصة ما تعلقَ الأمرُ بحملِ كتاب الله في الصدور والدعوة إليه والتفقُّه فيه. وقد عُرفت هذه الأُسرة بالكرم والجود الذي كانت وما زالت عليه إلى يومِ يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها إن شاء الله.
امتاز المجاهد «الطاهر فارس» منذ صغره بالفطنة والذكاء، والكرم والجود، وصبره واحتسابه، وشجاعته المُطلقة، وجُرأته غير المُتناهية، وإقامته للحق، وحبه للجهاد، وتواضعه، ووفائه، وعُلو همته، ومُروءته وشهامته.
وبسببِ ما أودَعَ اللهُ فيه من هذه الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة، كان «سي الطاهر» منذ نُعومةِ أظافره وبُزوغِ فجرِ طُفولتِه مُتميِّزًا عن باقي إخوته، مِما جعله مَحبوبًا من طرف والده «أحمد العايب» فخصَّه بمعاملة خاصة وكان لا يتردد في تقديمِه على جميع إخوته؛ لهذا قررَ «أحمد العايب» أن يجعل من ابنه المُدلل «الطاهر» رجلًا تعتز وتفتخر به عائلته، بل أرادَ أن يجعل من ابنه هذا شرف وفخر عشيرة «الزّْرَادْمَة» بأكملها؛ فوَعَدَ ابنه «الطاهر» أن يبعثه إلى جامع الزيتونة العريق بتونس العاصمة ليكون عالمًا شرعيًا في المستقبل.
بدأت مسيرة التعليم للمجاهد «الطاهر فارس» في سن السادسة من عمره؛ حيث تلقى المبادئ الأولية للعلوم العربية والدينية بعد أن حفظَ جزءًا كبيرًا من القرآن الكريم بقريتِه في أحضان العائلة على يد الشيخ «عمارة بن علي بن سلطان فارس»… ثم التحَقَ بجامع الزيتونة العريق بتونس العاصمة لتكملةِ تعليمه وذلك سنة 1937م، غير أنَّ اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939م جعلت الطالب الزيتوني «الطاهر فارس» يُغادر تونس ويعود من جديد إلى قريته الصغيرة «بحيرة الأرنب» خاصةً بعد أن تمَّ اعتقال والده «أحمد العايب» من طرف الاستعمار الفرنسي والزج به في مُحتشد «جنان بوزقى» قُرب «بشار».
مهامه ونشاطاته بعد عودته من تونس
وأثناء تواجد «الطاهر فارس» في جامع الزيتونة، التقى بزميله في الدراسة الشيخ «سعدي الطاهر حراث التبسي»، وأصبحَ منذ ذلك الوقت تربطهما علاقة حميمة التي أصفها بالعلاقة الروحية، استمرت هذه العلاقة أثناء ثورة التحرير، خاصةً عندما التقيا من جديد في القطر التونسي الشقيق كمسؤوليْن على مصالح ثورة التحرير.
وهكذا عادَ «الطاهر فارس» من تونس العاصمة ولم يكمل تعليمه بجامع الزيتونة العريق، لِيتولى أُمور العائلة في مكان والده الذي أُعتقِلَ من طرف الاستعمار الفرنسي.
وعند توليه أُمور عائلته، ضاعفَ من مجهوداتِه ليكون بالفعل رجل العائلة، فجعلَ يَتَّجِرُ في بيعِ المواشي والمَحاصيل الزراعية التي كانت من أملاك والده، وطَفِقَ يشتري ويبيع، ويربح ويدخر حتى تمَّ الإفراج عن والده.
ونظرًا لنبوغِه المُبكر وبعد خروج والده «أحمد العايب» من ذلك المُحتشد، ساومته الإدارة الفرنسية لِيلتحق بالكتابية بـ»قسنطينة» لِتكوينِه ضمن سلك الإدارة الاستعمارية، وضغطت على والده لكي يقبل بهذا العرض المُغري، غير أنَّ إيمانهما بالقضية الجزائرية كان أقوى من استراتيجية الاستعمار فرفضا هذا العرض بدون تردد.
موقفه من أحداث الثامن ماي 1945م
لقد كان اضطهاد الاستعمار الفرنسي للجزائريين من أبشع الصُور التي خلَّفتها فرنسا في بلادنا الواسعة، فقد قامت بقمعِ الثورات والانتفاضات الجزائرية بوحشية لا نظيرَ لها، ومِن ذلك على سبيلِ المِثال لا الحَصر، انتفاضة الثامن ماي 1945م التي ذهبت ضحيتها أكثر من 45 ألف مواطن جزائري من المدنيين الأبرياء في كُل من «خراطة»، «سطيف» و«قالمة»، إلى جانب سجن الآلاف من العلماء والمُعلمين والأئمة والمواطنين.
فكان لهذه الأحداث المؤلمة والظالمة التي عاشها الشرق الجزائري بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الأثر الكبير والبليغ في حياة «الطاهر فارس»؛ إذ تركت فيه كبقية أفراد عائلته وعشيرته وبلدته بصمات واضحة وجِراحًا لا تندمل؛ فقد اعتُقِلَ من عائلته معلمه وشيخه الشيخ «عمارة فارس»، وكذلك سُجِنَ والده «أحمد العايب» ونُفِيَ إلى معتقل «عين الصفراء» مع ثُلة من مُناضلي «حزب الشعب».
مُيوله السياسية والفكرية قبل اندلاع ثورة أول نوفمبر
لقد كان لتلك السنوات التي قضاها «الطاهر فارس» في الدراسة بين أحضان عائلته، وعلى رأسها الشيخ «عمارة فارس»، والسنوات القليلة التي قضاها في الدراسة في جامع الزيتونة العريق الأثر البالغ في مُيولِه وتوجهاتِه السياسية والفكرية؛ فقد اندفعَ بصدق إلى مُؤازرة «حزب الشعب» يدفعه لذلك حسه الوطني الذي تربى عليه ونهله من والده وشيخه «عمارة»؛ اللذين غرسا فيه إلى جانب مبادئ الإسلام السمحة، والتمعن في القرآن الكريم والتفقه فيه، حُب الوطن والدفاع عن مُقدساتِه.
فبالرغم من الظروف الصعبة آنذاك لم يثنه عزمه عن مُواصلةِ نضال والده ضمن حركة انتصار الحُريات الديمقراطية؛ فقد شارك كمُناضل في «حزب الشعب» وكان من أوائل شباب المنطقة الذين تأثروا بالأفكار الوطنية لهذا الحزب.
ومن الشخصيات الوطنية البارزة في ذلك الوقت التي كان لها الأثر الكبير على شخصية «الطاهر فارس» الشيخ الإمام العلَّامة «عبد الحميد بن باديس»، والشيخ الإمام الشهيد «العربي التبسي»، علاوةً على تعاطفه الكبير مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
نشاطه الجهادي أثناء قيام ثورة التحرير
في بداية الخمسينيات من القرن الماضي اتصلَ «الطاهر فارس» بالثُّوَّار التونسيين، ونَسَّقَ معهم كيفية تموينهم بالمال والسلاح في منطقة «المريقب»… كما كان كثير النشاط والتنقل للاتصال بمُناضلي الأحزاب الوطنية والوطنيين الأحرار في كل من «تبسة» وخنشلة» و»باتنة» وضواحيها خلال الفترة المُمتدة من سنة 1952م إلى سنة 1954م.
وهكذا تَولدت لدى المُناضل «الطاهر فارس» روح وطنية صادقة أهلته للانضمامِ للثورة التحريرية المُباركة بِمُجردِ انطلاقتِها، إذ عَمِلَ تحت قيادة قُواد الثورة بالمنطقة كالشهيد القائد عفيف علي «الزردومي»، والشهيد فرحي الطاهر، والشهيد لزهر شريط «الجدري»، وفرحي ساعي «بابانا الطكوكي»، ودعاس لزهر محمود «البلعيساوي»، وسماعلي صالح «الشامخي».
ثم كُلِّفَ «الطاهرُ فارس» بمسؤولية المنطقة المدنية بناحية «بحيرة الأرنب» من سنة 1955م إلى 1956م مِما جعله مُستهدفًا من قِبل القوات الاستعمارية، التي حكمت عليه بـ»محكمة قالمة» بالإعدام غيابيًا، وهذا ما دفَعَ بقيادة الثورة إلى نقله خارج الوطن وبالتحديد إلى القطر التونسي الشقيق، ليُتابع نشاطه الجهادي هناك، فتقلَّدَ مسؤولية اللجنة الخُماسية بناحية «فريانة» من سنة 1956م إلى غاية 1957م، ثم مسؤول ناحية «فريانة» بـ»تونس» من سنة 1957م إلى غاية 1959م ومسؤول ناحية «تالة» بـ»تونس» من سنة 1959م إلى غاية 1962م وهذا تحت إمرة جبهة التحرير الوطني.
ويذكر لنا بعض المُقربين من المجاهد «الطاهر فارس»، أنَّ سكرتير مكتب جبهة التحرير الوطني الذي كان يترأسه «الطاهر فارس» في الجنوب التونسي، أصبح وزيرًا للري في بداية ثمانينيات القرن الماضي…!!.
ولقد كان المجاهد «الطاهر فارس» ذا شخصية مُتميِّزة في حقل الجهاد، جمع اللهُ لها الخصائص والميزات وحلَّاها بالتقوى، وحببَ لها الجهاد والتفاني فيه، وجمَّلها بالتواضع، وزيَّنها بالصبر والتحمل، وقوَّاها بالشجاعة والإخلاص والتفاني الذي لا حدَّ له في سبيل الواجب.
وأثناء تواجده بالقطر التونسي الشقيق التقى من جديد بصديقه «سعدي الطاهر حراث» وتمَّ التنسيق بينهما في إطار خدمة القضية الجزائرية.
ولقد كان المُجاهد «الطاهر فارس» على تنسيقٍ من أعلى المستوى مع العديد من قادة الثورة كالمجاهد البطل «إبراهيم مزهودي» النائب للقائد المِغوار «زيغود يوسف» الشهيد والقائد للولاية الثانية، و»عمر البوقصي»، و«ڨقتال الوردي»، والشهيد «الزين عبادة» -الزردومي-، و»محمود الشريف» -الحميداني-، و»جدي مُقداد» -الحميداني- وغيرهم.
مهامه بعد الاستقلال
بعد الاستقلال عاد المُجاهد «الطاهر فارس» إلى أرض الوطن لِيُساهم من جديد في بناء الوطن مثلما ساهمَ في تحريره، فتقلَّدَ منصب مُنسق قسم حزب جبهة التحرير بمدينة «بئر العاتر» من سنة 1962م إلى غاية 1972م، ثم مُنسق ودائم سياسي بـ»بئر العاتر» من سنة 1972م إلى غاية 1976م، ثم دائم سياسي وعُضو اتحادية جبهة التحرير من سنة 1976م إلى غاية 1980م، ثم كاتب إداري وعُضو مكتب مُحافظة حزب جبهة التحرير من سنة 1980م إلى غاية 1987م.
وبعد هذا التاريخ الحافل بالأحداث والمواقف الوطنية النبيلة آن للفارس أن يترجل عن جواده، فقد تقاعَدَ «سي الطاهر» -كما يحلو لِمُحبيه تسميته- سنة 1987م.
وبالرغم من تقاعده فإنَّ «سي الطاهر» بقي على صلة بالأحداث الوطنية والعربية والإسلامية، وقد آلمه حال البلاد في العشرية السوداء أيما إيلام وهو يرى ويسمع كيف أصبح وطنه العزيز الغالي يعيش في أتون الفوضى والفتنة والإرهاب، وكان يرى بأنَّ الحل يكون بِالتقاء الإخوة والفرقاء على نقاط تحقن الدماء وتحفظ الأعراض في كنف الوئام الوطني.
ولعلَّ مشاركته البناءة في حل الخلافات المُستجدة شاهد على نشاطه المُكثف وحركيته المُتواصلة؛ حيث كان -رحمه الله- يُدعى كثيرًا إلى مَجالس الصلح بين المُتخاصمين، فيُرجَعُ إلى رأيه، ويُعمَلُ بنصيحتِه، وكان كثيرًا ما يُدعى إلى مُهمّات الأُمور التي تطرأ على علاقات أُمّته وشعبه، فيُساهم في حل عويصها ورأب انصداعها وتقويم اعوجاجها، مُوظفًا في كل ذلك كل ما يملك من حنكة كبيرة، وتجربة نافعة قد آتت أُكلها غير ما مرة في مثل هذه المواقف الاجتماعية؛ فلهذا كان أهل بلدته لا يقضون أمرًا دون مُشاورته والرجوع إليه.
ولقد عُرِفَ كذلك المجاهد «الطاهر فارس» بشخصيته القوية المُؤثرة، صادق اللهجة، واسع الرؤية، دقيق العبارة، له دراية كبيرة في مُجتمعه، لا يُخدع، إذا جاءه خبر لا يحكمُ بِموجبِه حتى يتحقق، فإذا تحقّق أعطى حُكمه المُتزن العادل، بلا خوف ولا وجل، لا مُحاباة ولا مُماراة.
والكثيرُ من الناس الذين لا يعرفون سي «الطاهر فارس» حق معرفته يتهمونه بالغُرور والتكبر؛ غير أنَّ هذا ليس بصحيح؛ فالمُقربون منه يصفونه بسهل المَعشر، دمث الخُلق، صاحب دين متين، وتقوى ويقين… ترد المسائل السياسية والقانونية عليه، فيُجيب عنها بأحسن جواب، وأتقن خِطاب، وبألطف عبارة… فكره مُنظم تحليلي، وملكته السياسية والأصولية ميّزته عن غيره…!!.
وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وفي جو مهيب من الخشوع والتأثر شُيِّعت جنازة «سي الطاهر» في موكب عظيم هزَّ أحاسيس المُشيعين في الحادي عشر من شهر أكتوبر سنة 1995م بعد وفاته إثر سكتة قلبية، ودُفِنَ بمدينة «بئر العاتر» بحضور وُفود كثيرة أتت من كل الجهات، رحمه الله.
وليعلم القارئ الكريم أنَّ أول ثانوية أُسست بمدينة «بئر العاتر» تمَّ تسميتها باسم «الطاهر فارس» تخليدًا لروحه الزكية الطاهرة. فاللهم أحيي في خواطر أبنائنا مثله العالي واجعل رضوانك عليه ثواب ما بذل وما قدم، وجزى اللهُ «الطاهرَ فارس» عن الجزائر خير الجزاء، وجعل اسمه للخلود وروحه للخلد، آمين والحمد لله رب العالمين.
المُجاهد «الطاهر فارس
أُلتقطت هذه الصورة في بداية السبعينيات من القرن الماضي في مدينة تبسة، ويظهر «سي الطاهر فارس» بعمامته المعروفة في اجتماع مع زملائه ورفاقه في حزب جبهة التحرير الوطني، ويظهر على يمينه محمد الصالح عثمانية، وعلى يساره على التوالي: عبد العزيز مراح، وأحمد جدي، ومن رائه مباشرةً محمد الصالح نصيب.