ركن تاريخ وتراث/ البيوتات العالمة بالجزائر – البيت الخلدوني-

د. عبدالقادر بوعقادة */ تذكر كتب التراجم أنّ من بين الأسر التي تفتخر بلادنا -الجزائر- بحضورها والإقامة في مدنها واستفادة الناس من معين علمها كان «البيت الخلدوني»، وهو بيت أثّر بفاعلية على الواقع العلمي بتلمسان والمغرب الأوسط، بل امتد نفوذه وأثره إلى كامل البلاد الإسلامية. ويتفق الجمع أنّ أصول آل خلدون عربية، فقد ذكر ابن …

مايو 19, 2025 - 15:56
 0
ركن  تاريخ وتراث/  البيوتات العالمة بالجزائر  – البيت الخلدوني-

د. عبدالقادر بوعقادة */

تذكر كتب التراجم أنّ من بين الأسر التي تفتخر بلادنا -الجزائر- بحضورها والإقامة في مدنها واستفادة الناس من معين علمها كان «البيت الخلدوني»، وهو بيت أثّر بفاعلية على الواقع العلمي بتلمسان والمغرب الأوسط، بل امتد نفوذه وأثره إلى كامل البلاد الإسلامية. ويتفق الجمع أنّ أصول آل خلدون عربية، فقد ذكر ابن خلدون وهو يؤرخ لمسيرته في « كتابه الرحلة» بأنّ نسبهم يعود إلى حضرموت باليمن وإلى وائل بن حجر أحد أقيال العرب. وأشار إلى الجد الأول الذي دخل الأندلس هو خالد المعروف «بخلدون بن عثمان» – ناداه الأندلسيون بذلك، فهم إذا قّدروا رجلا لعلمه ومكانته أضافوا إلى إسمه واوًا ونونا، فيقولون لعمر عمرون، ولزيد زيدون، وسعد سعدون، ولخالد خلدون، وأما بالنسبة للبنت فيصغّرون اسمها – تحبيبا للأنثى- فيقولون لزهرة زهيرة ولسعاد سعيدة ولسلمى سليمة- وقد تفرّع عن خالد أبناء وأحفاد صاروا يشكلون البيت الخلدوني، ليختص هذا البيت بأعمال وينفرد بمميزات بزّ بها بيوتا أخرى، فكان منهم كريب بن خلدون الثائر على الأمويين والمتولي للحكم بإشبيلية، أمّا عمر بن خلدون فقد ذكره ابن أبي أصيبعة في كتاب عيون الانباء في طبقات الأطباء ووصفه بالفيلسوف الطبيب المتوفى سنة 449ه/1058م، ثمّ الحسن بن خلدون جدّ الشقيقين يحيى وعبد الرحمن الذي كان منقطعا لخدمة الأمير الحفصي أبي زكرياء ببونه « عنابة « ، وبعد وفاة الحسن الجدّ تولى مكانه ابنه أبو بكر محمد بن خلدون والد المؤرخين يحيى وعبد الرحمن، وهكذا بقيت الأسرة مهتمة بممارسة السياسة الشرعية والعناية بالعلوم منذ مجيئها إلى اشبيلية ثمّ هجرتها نحو إفريقية ومدن المغرب الأوسط.
أشار ابن حيّان وأهل التراجم إلى المكانة المرموقة لهذا البيت، وأنّ المقرّ الأول لهذا البيت كان في إشبيلية، وأنّه بيت في غاية النباهة والجاه، حاز أعلامه الرياسة السلطانية والريادة العلمية». وبالنظر إلى عدّة ظروف ومعطيات وجدنا هذه الأسرة ترحل نحو سبته منذ 630هـ/1232م، ولكنها لم تستقر هناك كثير بل هاجرت نحو إفريقية «تونس حاليا» قرابة سنة 640ه/1242م، وربما التقى ضعف الإمارات الإسلامية الأندلسية مع الخطر الصليبي الإسباني لتهاجر العديد من الأسر إلى عموم بلاد المغرب. ومع ذلك لم تزل المكانة نفسها لهذا البيت من علم ورياسة خصوصا لما ارتبطت بالأسرة «الحفصية بتونس والزيانية بتلمسان والمرينية بفاس»، حيث حظي آل خلدون بالقرب والمؤانسة فأُقطِعوا الأقطاع ونالوا الحظوة .
لقد اشتهرت هذه الأسرة فكان منها الوزير والقائد والحاجب والفقيه والقاضي واللغوي والمؤرخ والفيلسوف، كما اشتهرت بالكتابة والتدوين في فنون شتى، حيث كان سلفها على قدر من العلم والتصنيف، فأبو بكر -الذي شغل مكان أبيه الحسن في وظيفة الإدارة المالية- ألّف كتابًا في صناعة كتّاب الدولة سماه « أدب الكتّاب»، ذكر فيه إرشادات من حيث التنظيم الإداري والمالي للدولة، ثم انتهى هذا البيت إلى الأخوين يحيى وعبد الرحمن، اللذين مارسا التأليف والتدريس والفتيا، وكان اهتمامهما بشؤون المجتمع والسياسة كبيرا، خصوصا حينما خالطا الأمراء واشتغلا في دواليب الدول، فعبد الرحمن – المولود بتونس- احتك بمجتمع بجاية وتلمسان، فأثّرتا في تكوينه العقلي ومنحاه الصوفي بشكل عميق. كان هذا على يدي أبي العباس أحمد الزواوي وابني الإمام والآبلي حيث لقّنوه المنطق وعلم الأصول وعلوم الحكمة، مثلما كان من الأقران الذين تأثر بمواقفهم عبدالرحمن هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق الخطيب (710-781ه ). ولا شك أنّ أهم فترة في حياة عبدالرحمن هي السنوات الأربع ( 776 -780هـ) التي قضاها عند أحد أحياء العرب بأولاد عريف بقلعة ابن سلامة ( بني سلامة) من بلاد بني توجين قرب تهرت، والتي وصفها بأكثر الأعوام بركة علمية حينما ألّف مقدمته التي قال فيها: «وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت تشآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها، وتألفت نتائجها»، إنّها مقدمة لا يستغني عنها أي مصلح يروم دروس السياسية، ولا يوجد عنصر يدخل في تكوين الدولة وازدهار العمران ثم سقوطها واضمحلاله إلاّ حلّله وناقشه. إنّها مقدمة في العمران وفنون العلوم لم يُأت بمثلها، إذ كوّن من خلالها مدرسة لا تزال آثارها باقية. ثم يأتي مصنفه الثاني في التعريف بنفسه ورحلته، وهو تصنيف غاية في الأهمية، وضح فيه البعد العلمي لشخصه وأسرته في إفريقية وحواضر المغرب الأوسط ومجموع الأقطار التي حلّ بها، وبين المقدمة والتعريف يأتي كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر كمصنف في التاريخ غاية في السرد والنقل والإخبار، وهناك مؤلفات أخرى لعبد الرحمن في التصوف والأصول وغيرهما. أمّا الرجل الثاني بالبيت الخلدوني فهو يحيى الذي خلّف لنا مصنفا يُعتمد عليه في تتبع الواقع العلمي والسياسي والاجتماعي لبلاد المغرب عموما والموسوم بــ:»بغية الرواد في ذكر ملوك بني عبدالواد»، وهو مصنف بقدر ما يؤرخ للأسر الحاكمة -بني عبد الوادي- فإنّه يقدم لنا إفادات مهمة حول عدد من العلماء وأدوارهم العلمية والاجتماعية والسياسية، وتكمن قيمة المصنف في القرب من الأسر الحاكمة، فكان مطلعا به على أحوال الخاصة والعامة من زاوية جدّ مكينة «البلاط الزياني»، خصوصا حينما عينه السلطان الزياني كاتبا له، وجعله من جلسائه ومستشاريه، وطاب المقام ليحيى بتلمسان بعد نجاح المهمة التي أمره بها أبو حمو في بسكرة حينما اتصل وفاوض قبيلة دواوة من رياح. وهكذا شكل البيت الخلدوني أحد أهم البيوت التي وجب العناية بها في تاريخ حضارة الجزائر، وإنّ الاهتمام بها هو العناية بالرصيد الغني الذي طاله النسيان أو السلب أو التزوير في ظل غياب حرصنا على تاريخ الأسر والعلماء، وإنّها لدعوة لإعادة النظر في كثير من الحقائق التي أهملناها فالتقطها غيرنا لتصير فخرا له ومثلبة فينا لغفلتنا وعدم اعتنائنا.

*- جامعة البليدة2-